الثقافية - عبدالله السمطي
حين أصدرت هذه المجموعة صدمت لأن كثيرًا من الناس اعتبروها تفوق مقدرتهم على الفهم، كنت أتساءل هل ما كتبت بعيد وناء لهذا الحدِّ، ويتطلَّب وقتاً لا يتناسب وسمات المجتمع السريع؟ أم أن الأمر ضريبة تدفعها الأشياء الأكثر عمقًا، ورجاحة لصالح الأشياء الطيَّارة المُبهجة!، هكذا تتحدث القاصة المبدعة سهام العبودي التي قدمت عملا قصصيا متميزا بعنوان: (خيط ضوء يستدق) وعلى الرغم من تميز هذا العمل من الوجهتين السردية والدلالية إلا أنه لم يحظ كثيرا باهتمام النقاد ولم يلتفت إليه بما يتلاءم والأبعاد الفنية التي تتجلى فيه، في هذا الحوار نسعى لاستكشاف عالم سهام العبودي القصصي، والوقوف على طرف من تجربتها السردية:
* تهتمين في قصصك بالذاكرة، واستدعاء الماضي: هل الأفق السردي ينفتح لديك عبر التذكر أم عبر التخيل؟
- يمكن القول إنَّ الماضي حين يُستحضر إبداعيًّا فإنه يكون مزيجًا بين الأمرين؛ فالتذكر المحض هو مجرد تسجيل، لكن التخيُّل ومزج الواقع بالمبتدع من الأحداث والصور هو ما يحول حدثا بعينه إلى عمل أدبي، جزءٌ مما كتبت وليس كله كان في الأصل ومضة خاطفة من الماضي، شخص أو حدث أو حتى غرض مادي قد يكون تافهًا في حيِّزه الزماني ذاك، لكنَّه حين يُستدعى فنِّيًّا فإنَّه لا يعود مجرَّد شخص، أو حدث، أو غرض، بل يغدو رمزًا لفكرة، قد تكون مجرَّد فكرة بسيطة، أو فكرة محمَّلة بشؤون الحياة الكبرى وأسئلتها المحيِّرة، في قصَّتي (خيط ضوء يستدق) مثلاً كانت الجدة تصنع السفر لأنها كانت معلَّقة بآخر تجاربها، تغالب الانتهاء والتلاشي من خلال ذاكرتها، وما يختزله الجريد من هذه الذاكرة، فالذاكرة تملأ فراغ النظر الفعلي، وسواء أكانت الجدَّة موجودة أو غير موجودة، متخيَّلة أو حقيقيَّة فإن مجرَّد منظر امرأة تصنع السفر قد لا يوحي بشيء لأيِّ قاصٍ، دون أن يجعله الخيال منظرًا متحرِّكا غنيًّا بالدلالات والانبعاثات.
* ما هي اللحظة الزمنية التي تفضلين التعبير عنها سرديا، وفي مجموعتك (خيط ضوء يستدق) لمحنا تركيزاً على الماضي؟
- كما قلت آنفًا، فإن الماضي حين يعود فإنَّه يعود في شكل دلالات ورؤى أفكار، وربما مفارقات تبرز بمجرَّد مقاربة الماضي مع الواقع داخل النصِّ الأدبي.
ولا أنكر مع ذلك بأنني شخصيَّة نوستالجية إلى حدّ كبير، حنيني إلى الماضي قوي، سواء أكان إلى الماضي القريب حيث الطفولة والسذاجة والبساطة، أو الماضي البعيد المتمثل في التاريخ؛ لأنََّ الكتابة -كما أراها- تجربة قرائيَّة: قراءة الذات، والوجود الحاضرينِ، والذات والوجود المكتوبين (في هيئة ذاكرات سابقة مدوَّنة، أو منقوشة في الوعي)، ونحن حين نكتب فإننا نكتب على أساس أنَّنا جزء من سلسلة اختبار الحياة وتدوينها، ونقلها، وهكذا حتَّى تنقضي الحياة ذاتها، فكلُّ تداخل بين الماضي والحاضر هو تداخل طبيعي في ضوء قدرة الإنسان على اختزان التجارب واسترجاعها وتوظيفها.
المهم في رأيي أن يأتي الماضي بعفويَّة، فلا نكتب حوله، أو به لأنَّه الزمن المحبَّب، بل لأن لحظة ما تفضِّل أن تلتبس بملامحه كي تولد هي على طريقتها.
* كيف ترين تحولات المشهد القصصي في السعودية اليوم.. هل تعود القصة القصيرة لتحتل مكانتها السابقة التي كانت تعثر عليها في ثمانينيات القرن الماضي؟
- المشهد الأدبي بعامَّة يشهد حالة ثورة وحراك، والدرس التاريخي ينبئنا دومًا أن الثورة يمكن أن تأخذ في طريقها الكثير من الضحايا، المهم أن لا يكون الذوق والقيم الأخلاقية هي أولى ضحايا ثورة الأدب.
القصة فن لن يموت، سيتطور، ستحدث فيه نقلات جريئة، ونصوص مغامرة، لكننا سنظل نقرأ القصة التقليدية، سنشهد فورات في نتاج هذا الفن وسنرى خمولاً على حساب أنواع أدبية أخرى، لكن الأمر المؤكَّد بالنسبة لي أن القصَّة القصيرة - وغيرها من الفنون الأدبية - حين تمرُّ بفترة خمول فإنها ستعود وهي محمَّلة بطاقات جديدة هي خلاصة ما وصلت إليه الفنون الأخرى من تطور في ذلك الأثناء، بل بكلِّ تطور مرَّت به الحياة؛ اليوم حين عادت القصَّة عادت وهي محمَّلة بلغة الشعر، ومغلفة بتفاصيل قصيدة النثر، عادت وفي جعبتها كل ما نضح من عقل البشرية من تقنيات فهيَّأت لها فضاءات الحياة الجديدة: (الهاتف النقال، الإنترنت، القنوات الفضائيَّة بل وحتى الأحداث السياسيات، والتحوُّلات الاجتماعيَّة، ومخاضات التاريخ الهائلة) كمًّا لا ينضب من الأفكار المدهشة، والتفاصيل الدقيقة.
المشهد الأدبي اليوم مهيَّأ لأن ينتج نصوصًا قصصيَّة ذات مستوى متقدِّم من الوعي والإدراك الفنيين لمتطلبات القصَّة القصيرة الحديثة، مع العمق في الرؤية، واستبطان كلِّ ملامح الحياة المعاصرة بشكلٍ تشريحي يوغل في الظواهر، ولا يقف عند قشورها.
* ما هو الفضاء القصصي الذي تودين تحكيكه (أو النسج عليه) في فضاء كتابتك للقصة؟
- بالنسبة لي يكمن الجمال دائمًا في التفاصيل، نحن غارقون في تفاصيل الحياة حتى أخمص قدمينا، كلُّ تفصيل في الحياة مهما كان حجمه هو مشروع قصَّة قصيرة، بشرط أن يعبِّر عن رؤية، أنا أتعلَّق بالتفاصيل، وبالأغراض الدقيقة وغير المرئيَّة، أجد دائمًا أن لعالم الأفكار الكبيرة والأجسام الهائلة عالم موازٍ من الأفكار الصغيرة والهوامش، والذرَّات، وأعتقد أن القاصَّ معنيٌّ بأن يستغلَّ كلَّ لفتة يمكن أن تمنح قصَّة: موقف، حالة، شخص، غرض، أو كائن حي يشاركنا الحياة، كلُّ الأشياء كلُّ الناس وكلُّ ما مرَّ بالإنسان في وقت ما يخضع في ذهن الأديب لعمليَّة تجفيف تشبه عمليَّة تجفيف الطعام، وحين تأتي الحالة الملائمة لاستعماله في فضاء نصّ ما فإنَّه يكون حاضرًا وبكامل نكهته، في عقلي أعرف أن كثيرًا من الأشخاص والمواقف والكائنات تكون دائماً على أهبة (عنوان)!
يبقى أن أقول أنني مفتونة باللغة، كلُّ الذين قرؤوا نصوصي يدركون ذلك لأوَّل وهلة، يدهشني في اللغة قدرتها على التشكُّل والتخلُّق في مطارح مختلفة، بشكل مختلف كل مرَّة مع أنها نفس الكلمات، وكلما امتلكت الأحاسيس نظامها الخاص من شبكة الكلمات كلَّما تضاعفت فرادتها، واكتسبت هويتها الخاصَّة، أقول دوما أن تشكيل اللغة بالنسبة للنصِّ المكتوب مثل الصوت بالنسبة للكلام الشفاهي؛ تعرف أن الصوت هو صوت فلان بمجرَّد أن تسمعه، كما تعرف أن هذا هو نصُّ فلانٍ بمجرَّد أن تقرأه، ليس لأنَّه صار مكرَّرًا أو مألوفًا بشكل غير مقبول؛ بل لأنه يمنح الأحاسيس البشريَّة الشائعة قدرًا من الحصريَّة، والفرادة من خلال نسيجه اللغوي الخاص.
* ثمة تواز لديك بين القصة القصيرة المعهودة، والقصة القصيرة جدا.. ما الذي يعنيه هذا التوازي؟
- في أفلام الرسوم المتحرِّكة تومض لمبة فوق رأس الشخصيَّة فندرك تلقائيًّا- معنى ذلك وهو: أنَّ ثمة فكرة قد طرأت لهذه الشخصيَّة، هنا بالضبط تقع بهجة (الإشارة)، في القصَّة القصيرة جدًّا يكتفي القاصُّ بالإشارة، والتلميح لمغزاه، معتمدًا على ذكاء قارئه، دون إفراط في الشرح والتوضيح، مكتفيا بحسن ظنِّه في عقل المتلقِّي إمَّا بفهم المعنى المراد، أو حتى ابتكار معناه الخاص به، فنحن نتواطأ على أن نبذل جهدًا يحتمل أن يصل بنا إلى إدراك لمغزىً قد يكون واحدًا، وقد يكون متعدِّدًا، لأننا ببساطة نتعامل مع الأدب، وفسحته التأويِّلية اللذيذة.
وكما تفضَّلتم في السؤال فإنَّ القصَّة القصيرة جدًّا هي ضرب من القصِّ موازٍ للقصة القصيرة التقليديَّة وليست بديلا لها؛ بمعنى أن قصَّة عادية لا يمكن أن تكون قصة قصيرة جدًّا أو العكس، على الأقل بالنسبة لقاص واحد يكتب النوعين، وبالنسبة لي القصَّة القصيرة جدًّا هي ضرب من التجريب القصصي، ضرب ناجح ومغامر وخطر، وسريع العطب؛ لأن القاصَّ يملك فكرته، أو إحساسه الخاص في لحظة ما، وهنا يمكن أن يكون هذا الإحساس متوتِّرا أو مؤلما لدرجة لا يمكن معها إلا أن يجري القاص عملية جراحيَّة سريعة وعميقة وخطرة كلُّ حركة فيها محسوبة، وكل خطأ كافٍ لقتل الفكرة، بينما يمكن للقاص أن يعالج فكرة أخرى على مدى أطول، عبر جرعات مدروسة من الكلمات، وكم كافٍ من السطور لتظهر الفكرة في شكل قصَّة قصيرة ليست أطول من القصَّة القصيرة جدًّا لأنها مطوَّلة عمدًا، بل لأن الإحساس وحده هو الذي يقود للقصَّة القصيرة جدًّا، أو يقود للقصَّة التقليديَّة.
* هل يمكن القول بأن سهام العبودي وكاتبات أخريات في جيلك تشكلن اتجاها قصصيا ما، وما هي أبرز سماته؟
- لا يبلغ الأمر مبلغ الاتجاه القصصي الخاص، هناك قدر من المادَّة القصصيَّة اليوم، لكن احتساب هذه المادة اتجاها يحتاج إلى دراسة متأنيَّة، لأن المعوِّل في ذلك ليس الإطار الزمني بل المنحى الفني؛ ستكون جملة من النصوص معبِّرة عن اتجاه حين تنفرد عن سابقاتها بالإفادة من كلِّ ما استوعبه جيلها من ثقافة عصره بكلِّ تفاصيلها، أقرأ كثيرا من القصص لقاصَّات يافعات تشبه قصص أجيال سابقة، وأجد أجيالاً لها خبرتها في مجال كتابة فن القصة القصيرة تنتج نصوصًا ذات ملامح جديدة.
يمكن هنا أن نقول أن هناك جملة من السمات للنصوص القصصيَّة اليوم، منها الانفتاح على التجريب، وأعتقد أن هذا هو أجلُّ ضرورات القصِّ المعاصر؛ لأن كثرة النتاج الذي هيَّئته سهولة النشر، وشجَّعه التركيز على نتاج الأنثى الساردة يجعل من سلوك القاصَّات مسلك التجريب أمرًا ضروريًّا لتحقيق قدرٍ من الفردانيَّة وسط هذه الكثرة.
جيل القاصات اليوم محظوظ لأن جيل القرَّاء الذي يواكبه صار أكثر، وجود جمهور قارئ شيء ضروري لارتقاء القاص، يبقى أن يقوم القاص بمهمته ويرتقي بجمهور القصَّة، ويساعده على أن يجد في الأدب ما يفتقده في حياته من جمال وعمق وتأمُّل، حين أصدرت هذه المجموعة صدمت لأن كثيرًا من الناس اعتبروها تفوق مقدرتهم على الفهم، كنت أتساءل هل ما كتبت بعيد وناء لهذا الحدِّ، ويتطلَّب وقتاً لا يتناسب وسمات المجتمع السريع؟ أم أن الأمر ضريبة تدفعها الأشياء الأكثر عمقًا، ورجاحة لصالح الأشياء الطيَّارة المُبهجة!
أقول هذا الكلام لأن القصَّة - كما أراها على الأقلِّ- لا يمكن أن تكتسب مكانتها الملائمة دون أن تحرِّك ركودًا على مستوى المضمون والشكل، إذا كانت النصوص ستسلك نمطًا مألوفًا من السياقات، وشكلاً متكرِّرًا من الأداء، فإنَّ الحاجة ستكون إلى نقَّاد يجيدون العدَّ أكثر ممَّا يجيدون البحث عن مكامن الجمال، يهمُّني أن يتطوَّر القارئ، أن نمتلك جيلاً له ملامحه الخاصَّة بالتوازي مع ملامح الإبداع الذي يُكتب له، وأن يتعلَّم هذا الجيل أن يخوض غمار التجريب من خلال القراءة كما يخوضها المبدع من خلال إبداع النصِّ.