أهيم في المدن، أتقن قراءة أبجديّاتها بكلّ اقتدار. تستثيرني لعبة سبر أغوارها، وفكّ طلاسمها. أتوق في محاولاتي الأوّليّة لفهم شخصيّتها، وضرب المقارنات فيما بينها.
وفي ذلك، أتعرّف إلى فحوى المدينة عبر انبلاج الإنسان في تفاصيلها. يشي هذا بكنه البشر القاطنين في ربوعها، حذوا حذو أولئكم الذين أرسوها، وارتسموها، وشيّدوها.
وحتى أدناها حذقا، تطبع المدن بصماتها على أبنائها بكلّ جبروت. وتصنع المدن سائر تفاصيل قاطنيها، كما يصنعون هم بها، مثلا بمثل.
المدن، لم تشيّدها الصدف الاعتباطية. حتى أرجاؤها الموغلة في القدم، ومبانيها المهترئة. إنّها مخاض الثقافة، والمناخ، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والميتافيزيقيا، وسائر الناس في كلّ الحقب. هذه خانات الشفرة لشخصيّة المدن، وتاريخها، وهويّتها.
أطلال المدن العتيقة، والمهجورة في أشلاء منها، مترعة بالثراء حدّ الترف. إنّها تستفزّ الذاكرة، وتحرّض الخيال، وتنكأ الكوامن، على نحو صارخ. الأمر الذي لا يتسنّ للمدن الحديثة التي تأخذ بتلابيبنا نحو عقلانيّة الواقع الراهن. ألا تكون دومة الجندل، في هذا، أشدّ ثراءً من هونغ كونغ؟
لوجه أيّما مدينة سحنة متفرّدة، تنمّ عمّا انطوت عليه ذاكرتها. وللمدينة ذاكرة، معالمها الملامح التي في الشوارع، والأزقّة، والدهاليز، والحواري، والمساكن، والبنايات، والميادين، والجسور، والأنفاق، والسكّان.
المدن كالبشر. لكل مدينة بطاقة هويّة، وعيد ميلاد، وشهادة وفاة، وتاريخ، وذاكرة، وطفولة، وفتوّة، وهرم، وملامح، وطقوس، وعلل، وأدواء، وأصدقاء، وخصوم، وآل، ومكامن قوّة، ونقاط وهن، ولغة، وسيما، وروح، وكيمياء، وأحلام، ومخاوف. والمدن كالبشر، منها ما يلهث بأثرنا، دون أن نعيره أدنى اكتراث. ومنها ما يعرض عنّا صفحا، بيد أنّا نبقى مسكونين بالحنين إليها على الدوام.
تكافح المدن، بغية إغواء القاطنين في ربوعها، للتشبث بها، وتتآمر، ببراعة فائقة، كي تكتسح مدّ التوق الذي يوقعه بنا غريمها الأزليّ الأبديّ، الريف، بيد أنّها لا تحوز الإنسانيّة، ولا التلقائيّة، ولا الرومانسيّة، السخيّة التي تتّسم بها الأرياف.
وكما في مرافئ مدينتي، فبين زخم المدينة ووداعة الريف، تبقى روحة متأرجحة، مثل بندول.
وللمدينة مرافئ أخرى.
-الرياض
ts1428@hotmail.com