التعليق السينمائي..
ما هي طبيعته؟
بعد أن تستكمل مراحل العمليات اللاحقة للفيلم التسجيلي على طاولة التوليف أو شاشة الحاسوب للمونتاج الحديث، تأتي مرحلة التعليق. وما يؤسف له وبسبب غياب العملية الأكاديمية لإخراج الأفلام التسجيلية فإن التعليق للفيلم التسجيلي يحال إلى كتاب وأدباء للاستمتاع بجمال الكلمة التي يكتبونها، فهم يكتبون شعرا ونثرا جميلا لكنه لا يصلح للفيلم التسجيلي في أغلب الأحيان.
إن كتابة تعليق الفيلم التسجيلي هي مهنة ثقافية بحد ذاتها.
في السينما العربية وفي سينما العالم الثالث يحول الكثير من كتاب التعليق الفيلم التسجيلي إلى ما يشبه الفيلم الإذاعي فيصاحب التعليق وبلغة إنشائية وصفية فيها الكثير من المرادفات اللغوية والتي لا ضرورة لها وأحيانا بإطناب لا علاقة للصورة بما نسمعه من صوت فيما التعليق السينمائي ينبغي أن يكون دقيقا معلوماتيا ومحسوبا وعندما تقتضي الضرورة فقط، وهذا ما فرضه نظام التلفزة القائم على التقريرية البصرية والصوتية.
ليس مستحبا دائما أن يأتينا الصوت من خارج الفيلم وأعني بذلك (التعليق) فيما نحتاج في كثير من الأحيان أن نسمع التعليق من داخل الفيلم وهو يعطي شعورا أكثر تأثيرا لعلاقة صوت داخل الفيلم بالحقيقة الموضوعية فيما صوت المعلق وجهة نظر خارجية.
كما أن صوت الحياة وصوت مكونات الواقع من المياه والرياح وأصوات السيارات ولغط الشوارع وحتى الصمت، تجعل المشاهد يصبح داخل الحدث ويتأثر بالفيلم التسجيلي حيث صوت الحياة وتسجيله بشكل نقي يضفي على الفيلم قيمة فنية وجمالية عالية المستوى.
إن للصوت تأثيرا كبيرا يفوق في بعض الأحيان تأثير الصورة ليس فقط من الناحية السيكولوجية بل أيضا من الناحية الفيزيائية. وهنا تأتي أهمية الموسيقى ودراسة استخدامها دراسة واعية.
فالموسيقى في الفيلم السينمائي سواء الروائي أو التسجيلي تنطوي على خطورة شديدة من الممكن أن تهدم الفيلم كاملا ومن الممكن أن ترتقي به جماليا إلى مديات كبيرة.
فالموسيقى أولا ينبغي أن تكون محسوسة وليست مسموعة، فإذا ما تنغمت الموسيقى أصبحت طربية فإنها تسرق السمع وتحول دون متعة العين بالقيمة الجمالية للصورة ومضمون المشهد السينمائي.
كما ينبغي معرفة المكان الذي تحتاج إليه الموسيقى.
الكثير من السينمائيين والسينمائيين التسجيليين بشكل خاص يجعلون من الموسيقى سدا لفراغات كثيرة يشعرون بأنها تنقذ الفيلم من المونوتونية فيما هم يسقطون الفيلم بالمونوتونية عبر استخدامهم غير الصحيح للموسيقى.
هناك أفلام لا تحتاج إلى تعليق ومن الصعب كتابتها، ففيلم المطر مثلا للهولندي يوريس إيفنز كانت مادته المطر وموسيقاه المطر وتعليقه المطر نفسه فهو رصد المطر بطريقة شاعرية.
رصد أمكنة هطول المطر على الأرض أو على الصفيح أو على مظلة سيدة في الشارع أو هطوله على سطح البحر أو النهر أو مشاهدته من خلال مقهى دافئ.
فأصبح الفيلم واحدا من الأفلام الشاعرية في تأريخ الفيلم التسجيلي، بعكس فيلم فاشية عادية لميخائيل روم الذي اعتمد على التعليق وهو تعليق المخرج نفسه حيث كان يتحدث عن ظاهرة الفاشية التي كان هتلر نموذجها المعاصر في القرن العشرين.
هذا الفيلم اعتمد التعليق مضافا على الوثيقة التأريخية، لذلك فهو فيلم وثائقي وليس تسجيليا.
ميزانية الفيلم التسجيلي بسبب التطور التقني الذي حصل على عالم المرئيات، هذا التطور والتقدم المتسارع ساعد ويساعد كثيرا على إنتاج الفيلم التسجيلي وحتى الفيلم الروائي. فالمعدات السينمائية ومعدات الفيديو صغر حجمها ورخصت قيمتها وكبرت فاعليتها وجمال صورتها.
فالكاميرا السينمائية التي كانت تبلغ كلفتها بين خمسين ألفاً ومائة ألف دولار، ويبلغ وزنها أكثر من خمسة عشر كيلو غراما، أصبحت اليوم بوزن لا يتجاوز الثلاثة كيلو غرامات وبسعر لا يزيد على عشرين ألف دولار وأحيانا أقل من هذا المبلغ وتوفر للمنتج صورة متوازنة الألوان عميقة الميدان نظامية البث وقابلة عند الضرورة لأن تتحول إلى شريط سينمائي دون أن تفقد سوى نسبة ضئيلة من نوعيتها.
وفيما يتعلق الأمر بعملية التوليف فلقد أصبح بمقدور السينمائي أن يوفر استوديو للمونتاج في غرفة عمل صغيرة في منزله وعبر الحاسوب الماكنتوش أو حتى البي سي، وضمن برنامج المونتاج يعمل بحرية كبيرة وبخيارات كثيرة في بناء فيلمه التسجيلي فيمكنه أن ينفذ أكثر من صيغة بنيوية لفيلمه فيما العمل المونتاجي السابق وعبر شريط السينما هي عملية متعبة وتأخذ زمنا طويلا في أية عملية تغيير في مسار التوليف هذا ناهيك عن صعوبة وضع المؤثرات البصرية على شريط السينما وسهولة ذلك على مادة الفيديو.
وأيضا عند طباعة النسخ فإن الكلفة قليلة جدا قياسا بالكلفة الكبيرة لطباعة الفيلم السينمائي على شريط السليلود. كل هذا يؤدي بالضرورة إلى كلفة ضئيلة في إنتاج الفيلم التسجيلي.
إن أكثر فقرات ميزانية الفيلم التسجيلي كلفة باتت هي السفر والإقامة نحو مواقع التصوير التي ينبغي على المنتج ألا يبخل بها وصولا إلى شريط مثير في مادته التسجيلية.
فمن هو منتج الفيلم التسجيلي؟ إذا ما تحدثنا عن الجهات التي لها مصلحة حقيقية في إنتاج الفيلم التسجيلي فإننا نرى أن هذا النوع من المنتجين محدود قياسا بمنتجي الأفلام الروائية التي بنجاحها تحقق مردودا وصل في بعض الأحيان إلى مئات الملايين من الدولارات.
أما الفيلم التسجيلي فإن جمهوره محدود إلا في حال عرض من على شاشات التلفزة. ولذلك فإن القيمة التجارية للفيلم التسجيلي أقل فرصة من الفيلم الروائي ولكن قيمته تكمن في كونه عملية ثقافية تسعى إلى كشف الواقع الموضوعي بعين واعية.
كما أن القيمة الجمالية للفيلم التسجيلي في حال نفذ بشكل ممتاز فإنها تحقق متعة ذهنية وحسية للمتلقي وتكشف الحقائق الواقعية بطريقة فيها الكثير من المنطق والإقناع كونها سينما الحقيقة.
في الستينات برز في الساحة السينمائية فيلم تسجيلي هو فيلم (كلكتا) للفرنسي لوي مال، وهذا الفيلم حقق نجاحا تجاريا حيث عرضته الكثير من صالات السينما عروضا تجارية، وكان الفيلم يقع في ساعتين وهي بشكل عام مدة زمنية تضع المتلقي في حالة الملل لمشاهدة فيلم تسجيلي الذي من المفروض أن يبقى هذا النوع من الأفلام بحدود الساعة أو ما يزيد قليلا وهو ما تعارف عليه بالفيلم الطويل فيما بقي زمن الفيلم المتوسط بين نصف ساعة وتسع وخمسين دقيقة، وتركت تسمية الفيلم القصير لذلك النوع الذي لا يتجاوز النصف ساعة.
جاء فيلم (كلكتا) بساعتين هزت مشاعر المشاهدين أينما عرض. وقصة هذا الفيلم هي أن المخرج قد كلف من قبل شركة طيران فرنسية بتصوير معالم كلكتا الأثرية والجميلة لكي تستهوي السائحين للسفر نحوها عبر شركة الخطوط الفرنسية.
والفيلم كان بمثابة إعلان سياحي جمالي ومثل هذه الأفلام ذات الطابع السياحي الإعلاني توضع لها ميزانيات كبيرة قد تفوق ميزانية الفيلم التسجيلي الطويل. وعندما ذهب فريق التصوير بقيادة المخرج لوي مال ووصلوا كلكتا شاهد المخرج آلاف الهنود في هذه المدينة مصابين بالجذام وينامون على أرصفة المدينة منتظرين لحظة الموت فوجد نفسه أمام كارثة إنسانية قرر أن يبحث في جوانبها الإنسانية، الاقتصادية، والاجتماعية تاركا السياحة وشركة الطيران، فقرر وعلى مسؤوليته أن ينتج هذا الفيلم فدخل في عمق المشكلة الإنسانية وعاد لشركة الطيران وهو يحمل فيلما تسجيليا مؤثرا تمكن من استثماره تجاريا إضافة إلى قيمته الإنسانية المؤثرة تاركاً حل المشكلة المالية للمحامين والقضاة. هذه حالة استثنائية لا يمكن أن نبني عليها موقفا اقتصاديا.
إنتاج الفيلم التسجيلي اليوم هي مهمة ذات بعد توثيقي وتأريخي حضاري إضافة إلى القيمة الفنية الجميلة للفيلم التسجيلي. وينبغي التحدث بصراحة أن أغلب الأفلام التسجيلية العربية هي ليست ضمن مدرسة الفيلم التسجيلي وقيمه الفكرية والفنية الجمالية، ولذلك فإن البدايات السينمائية التي نسمع عنها في منطقة الخليج اليوم والبدايات السينمائية للسينمائيين الشباب في المملكة العربية السعودية ينبغي أن تتأسس وفق قوانين الفيلم التسجيلي لأن هذا النوع من الأفلام هو فرص ساحرة لسينما جديدة تسجيلية وأيضا هو أساس لسينما روائية قادمة تقوم على أساس الواقع مهما اختلفت اتجاهاتها من الواقعية حتى السوريالية، فإن الواقع يبقى مادتها وأيضا هدفها.
المنطقة العربية، ومنطقة الخليج بالذات، والحياة في المملكة العربية السعودية هي عالم ثري في معطياته وثري في تقاليده وقيمه وجميل أيضا وفيه من المكونات والمضامين ما هو غير سائد في العالم وله خصوصيته وجمال هذه الخصوصية.
الفيلم التسجيلي والسينمائيون التسجيليون الذين يحبون السينما حقا بإمكانهم تأسيس نهضة سينمائية تسجيلية جدية تتميز فيها منطقة الخليج والمملكة العربية السعودية. هذا النوع من السينما هو غير برامج التلفزة التي نراها من على شاشات الفضائيات.. هي سينما لو تحققت لكشفت واقعا ساحرا أمام عين المشاهد.
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244
-هولندا
Sununu@wanadoo.nl