انتهينا في المساق السابق إلى أنه كان مفترضاً- بعد مشوارنا التعليميّ المضني- الانطلاق إلى بثّ الاستنارة بين الناس، والتحديث المديني، والالتفات إلى ميادين العلوم، والصناعات، ومتطلّباتهما المعاصرة، وأُسّ تلك المتطلبات: السعي- بلا ارتكاس ولا يأس ولا انهزام- لجعل اللغة العربيّة لساننا القوميّ الحيّ اليوم، والمنافس مستقبلاً، لا في الشعر ولا في الأدب وحدهما، بل كذلك في العلم، والصناعة، والتقنية.
بيد أن السؤال المطروح، باستمرار: أيهما يأتي أوّلاً، العلم والصناعة والتقنية، أم اللغة؟
وليس هذا السؤال من قبيل سؤال البيضة والدجاجة الإشكالي. إذْ بما أن الكلمة كانت دائماً (في البدء)، فإنها تظلّ منطلق الفكر والخيال والتعبير والعِلم والإبداع، لا العكس. أيْ أنّ مَن قد يعترض بالقول: (وأين العلم والصناعة والتقنية العربيّة، حتى تكون لغتنا لغة علم وصناعة وتقنية؛ ها نحن هؤلاء تابعون في هذه الحقول كافّة، وطبعي أن تكون لغتنا تابعة في هذه الحقول كافّة)، هو يعاني من ارتهانه إلى الضياع والتشتّت الذهني والعَشَى الثقافي، وإنْ أَحْسَنَ الظنّ بعقله. وهنا تكمن هوّته السحيقة التي فطن إلى انتشال أمثاله منها المسلمون قديماً؛ فبدؤوا بالترجمة إلى العربيّة، لا بفرض تعلّم اللغات التي استقوا منها المعارف والعلوم؛ مدركين أن اللغة الأُمّ- لا المكتسبة- هي منبجس الإبداع الحقيقي الأوّل، الذي إن ضعف أو تعطّل أو دُجّن، لم يعد المنتمي إليه أكثر من تُرسٍ في آلة غيره من البشر، ينتج بعقل غيره، ولغيره، إنْ أبدع لم يكن متميّزاً، وإن تميّز كان تميّزه محسوباً للآخر، لا له، ولا لقومه. هو لا يعدو الإسهام الباهت في حضارة الغالب، ولا يتبوّأ مرتبةً تُذكر أعلى من مستخدَمٍ في بلاط سيّده القويّ. كما فطن إلى ذلك أبناء اللغات المنافسة للإنجليزية اليوم، شرقاً وغرباً، فلم يعتكفوا في محرابها، ليقضي أحدهم- كالعربيّ- نصف عمره في تعلّم الإنجليزيّة والنصف الباقي في تمجيدها، بل أنفقوا أموالهم وأعمارهم على الترجمة، بأضعاف ما كان ينفقه المأمون في دفع وزن الكتاب المترجَم ذهباً.
واللغة العربيّة لن تنتصر بقصيدةٍ تمجّدها، ولا بمقالة تطريها. فكم مضى من الدهر على قصيدة حافظ إبراهيم العصماء، التي نتغنّى بها كلّما حَزَبَنا أمر اللغة، وتذكّرنا فجأة أننا أُمّة ناطقة كسائر الأُمم، فهل سألوا الغوّاص عن صدفات العربيّة اليوم مقارنة بصدفاتها على أيام حافظ؟
جميل، وجليل، أن يتغنّى المرء بلغته، وأن يبثّ الهمّة، والنخوة، والغيرة، واليقظة، وكل بقايا القِيَم النبيلة والأصيلة في أبنائها. إلاّ أنه سيبقى كالمرأة الثكلى حين تندب أطفالها، وإخوتها وربعها غافلون؛ فما جدوى ذلك إنْ لم تَعُد هناك حياة لمن تنادي منهم جميعاً؟ ما جدوى النُّدْبة، إن لم يَعُد- في بيداء تصرخ بين سهوبها البسوسُ والخنساء- حسيسٌ ولا أنيس؟ إنما الجدوى حين يتبع القولَ الفعلُ، وحين تستقيم المُثُلُ مع التخطيط. وإلاّ فإن كلامنا، شعراً ونثراً، سيظل بكاءً على الدِّمَن ووقوفاً على الأطلال.
وإن من مفارقات تخلّفنا المعاصرة أن تجد مَن ينتصر للفصحى بقصيدة ثم ينتصر للعاميّة بقصيدة! ومَن يرى أهميّة توطيد الفصحى ونشرها، ويُثني على مَن ينادي بذلك، ثم إذا هو في الوقت نفسه يُخِبّ في ميدان نشر العاميّة، بخيله ورجله. ولقد يقول لك: (أنا معك في أن الفصحى خيارنا الأوّل.. ولكن...)! وعندئذٍ لا بُدّ من أن تتأمّل هذه (اللاكن) التي نشبت في حلقه، وفي هذا الازدواج الذهني الذي يدير رأسه عن رؤية السراط السويّ، لتحليله وفهم دوافعه النفسيّة والذهنيّة وأسراره.
ربما قال لك: أنا إنسان وسطيّ، وواقعيّ، لا أحبّ التطرّف، مع أو ضِدّ، بل أحبّ ترك الأمور تجري في أعنّتها، وللبيت ربٌّ يحميه، ثم إنه لا قِبَل لي بتغيير الكون، وربما همس في أذنك: إني لا أطيق سُخط الساخطين، فاذهب أنت فقاتل إني هاهنا قاعد!
وتغيير (الكون) هنا يبدأ بتغيير الذات، ألم يتدبّر هذا قول الحق سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ، وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 53)، أو قوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ، إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ، وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) (الرعد: 11).
ولقد ينبغي قبل ترديد بعض الشعارات التنبّه إلى: أن بعض (الوسطيّة) سماجة، وبعض (الواقعيّة) استخذاء، وبعض (الحياد) خذلان، وبعض (الديمقراطيّة) لا انتماء ولا موقف، وبعض (الثقافة) نفاق وخيانة.
كيف نكون مع الشيء ونقيضه، والخصم وخصيمه، والمبدأ واللا مبدأ؟!
إزاء مأزق كهذا، لا يمكن أن يكون المرء انفصاميّاً هكذا إلاّ وهو يحدّث نفسه بلسانين: لسان العقل، ولسان العاطفة، أو: لسان العاطفة، ولسان العاطفة النقيضة. فالأرجح هنا أن ما بعد (... ولكن...) هو من إنتاج المصنع العاطفي، وما قبلها هو تسليم بالمنطق البسيط، المتمثّل في أن لغةً حَمَلَت الماضي والحضارة، الروحيّ والزمنيّ، وجَمَعَت العرب فأكسبتهم هويّتهم التاريخيّة بين الأُمم، هي مكسب لا يُقدّر بثمن، يعضّ عليه كل عاقل أمين بالنواجذ، مهما كانت التضحيات. (ولكن...) أين نذهب من عواطفنا، وجماعتنا، وتيارنا الحبيب، وغير تيارنا غير الحبيب؟!
إن الشجاعة الذهنيّة وحدها هي التي تكفل الإجابة العمليّة عن مثل هذا السؤال، وهي التي تحدّد مقدرة الإنسان على تغيير أفكاره النمطيّة ومواقفه، وتُجرّده من أهوائه المستبدّة، وتُقيله من ضواغط القطيع والموروث و(الرّبع). ولقد يكون ما قبل (ولكن...) تلك عاطفيٌّ محض بدوره، حين لا يَصدر إلا عن خطابٍ مكرور: من أن هذه لغة القرآن الكريم، وقد قال حافظ إبراهيم:
رَجَعتُ لِنَفسي فَاِتَّهَمتُ حَصاتي
وَنادَيتُ قَومي فَاِحتَسَبتُ حَياتي
... وهلمّ جرّاً. ومَن هذا خطابه لا يبعد أن يكون ذا لسانين كذلك، فهو يؤمن بأن الفصحى لغة الإسلام، (ولكنه) يجد في إيكال حفظها إلى الغيب راحة ضمير له، كي يلبّي عاطفته الأخرى اللَّهَجيّة، إنتاجاً أو تلقياً أو نشراً أو مهادنة. لقد بات يتقلّب بين نارين، وهو على كلا جانبيه محروق، ويتردّد بين ضرتين، قد داخ بينهما السبعَ دوخات، لا يستطيع أن يحزم أمره، تتجاذبانه من كل اتجاه، لا يُرضي إحداهما إلاّ أَزْعَلَ الأخرى، وهو بهما معاً صَبٌّ كَلِفٌ مفتون. ولو أن صاحبنا شُفي من فصامه هذا الذي يمزّقه كل ممزّق، بين ما قبل (لكن) وما بعدها، ثم صَدَق مع عقله، لربما أدرك أن الفصحى لن تقوم لها قائمة وأهلها نائمون، فاللغة ما نستعمله ونعيشه، لا ما نقرأه، أو نمارسه طقوسيّاً في المناسبات، أو نحلم به. ومن هنا فاللغة تحيا بحياة أهلها، المتحدّثين بها، لا بقصائد البكاء على أطلالها، ولا بأن نتمنّى على الله الأماني، ثم نتنصّل من مسؤوليّاتنا.. ناهيك عن أن نركض بعكس الاتجاه ومع ذلك نرجو أن نصل إلى هدف في الاتجاه المعاكس! مثلما أن صاحبنا لو خلص من تجاذبه المبلبل، لأدرك أن العامّيّة مادة مهمّة للدرس والموازنة والاستدراك والتقويم العلميّ للفصحى، بما يرأب الصدع في لساننا العربيّ، ويُقرّب الشّقّة بين مستَوَيَيْه، ويثري الثقافة، ويكشف أسرار اللغة، ويُمِدّ العربيّة بنسغ حياةٍ ما زال يسري في العاميّة، وإن تعكّر وتعقّد وتجلّط. نسغٍ يحمل الجينات وكريّات الدم اللغويّة، التي لا قِبَل لنا بها في المعاجم اللغويّة، ولا في كتب سيبويه، وثعلب، والثعالبي، والسيرافي، والشمشاطي، والوطواط. فلئن عُدّت اللهجات مرضاً، فإن الطِّبّ يدرس الظواهر المرضيّة من أجل الصحّة قبل دراسته الظواهر الصحّيّة. وفرقٌ بين درسِ حالةٍ مَرَضيّة من أجل صِحّة، ودرسٍ لجعل المرض ذات يومٍ تاج صِحّة!
(.. ونواصل).
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
*(عضو مجلس الشورى)
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net