هل تنتظر الأشياء الإنسان الغائب الذي يشتهي أن يعود إليها؟ وإذا كانت الذاكرة نزيهة مخلصة، فهل تظل الأشياء، التي ابتعد الإنسان عنها، مخلصة بدورها، تنتظره كما كانت، دون زيادة أو نقصان؟
يشير السؤال الموجع، الذي يتضمن إجابته، إلى أدباء فلسطينيين، كتبوا عن ديارهم وسهولهم وزيوتهم، ووعدوا الروح الحزينة بعودة مظفرة، تجمع الغائب بما اشتهى، وتتوّج انتظاره الطويل بالمسرّة. تحدّث غسان كنفاني، بحنان كبير، في روايته التي لم تكتمل (العاشق)، عن جبال تحضن الفلاح الفلسطيني، وتقيه من الحر والبرد، وعن سهول مخلصة تحجب المقاتل عن عيون أعدائه. وحّد بشكل غنائي بين الأرض والإنسان، واشتق روح الأخير من روح أرضه، موقناً بأن وراء كل انفصال اتصال، وأن الأرواح النقية لا تقبل بالتبعثر والتجزئة. بيد أنّ حلم غسان صعب التحقق والمنال، ذلك أنّ المستوطنات الصهيونية بدّلت وجه الأرض الفلسطينية تبديلاً، وأنّ آثار الفلاح الفلسطيني القديم محتها الدبابات الإسرائيلية أكثر من مرة. ولعل جمال الحلم وثقله هو ما جعل غسان يترك روايته ناقصة، جامعاً بين لوعة الشوق والخوف من الآتي. صرّح الروائي عن أحلامه في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، حين استولد الفلسطينيون من كفاحهم المسلّح أملاً جديداً.
كتب غسان في بيروت ما كان يكتب عنه جبرا إبراهيم جبرا في بغداد، توازع الطرفان شوقاً إلى زمن مضى. وإذا كان الأول قد تطلع إلى جبال فلسطين وسهولها، فقد انشدّ الثاني إلى موقع ولادته (بيت لحم)، وأعاد ترتيب أطيافها، وأنشدَّ أكثر إلى القدس، ورأى فيها مكاناً مقدّساً قوامه: الصخر. ساوى جبرا في روايته (السفينة) بين القدس والصخرة الهائلة المقدسة، وطلب من الفلسطيني أن يكون صورة عن مدينته، فعليه أن يتمتع بصلابتها وجمالها وقوتها، وبذلك العبق القديم الصادر عن تاريخ المدينة القديمة. غير أنّ حزن جبرا لا يختلف كثيراً عن قلق غسان، ذلك أنّ الإسرائيليين استولوا على معظم القدس، وغيّروا ملامحها وتركوا للعرب (القدس الشرقية) التي هي مساحة ضيّقة فقيرة، لا يستطيع أهلها ترميم ما تقادم فيها إلاّ بإذن إسرائيلي.
على الرغم من الشوق والحلم وتجميل صورة الوطن، فقد تضمن نص الروائيْين الفلسطينيين كثيراً من الألم والشعور بالعجز. فقد استنجد غسان، وهو يعيش صعوبات المنفى، بروح أرضه سائلاً العون طالباً المساعدة مصرّحاً، في الحالين، بثقل العبء الذي يرزح تحته اللاجئ الفلسطيني. وحلم جبرا بأن يكون الفلسطيني امتداداً ل(الصخر الشريف)، كي يظل في أرضه، ويضمن له الصخر عودة أكيدة إلى المكان الذي شهد شبابه. أسبغ الطرفان على فلسطين جمالاً واسعاً، والتمساً من الجمال الفريد المساعدة والحماية.
أما إميل حبيبي، الهازل في الحياة والكتابة والسياسة، فقد تذكّر بألم شفيف مرابع الصبا في روايته (إخطيّة)، واستعاد مذاق فاكهة رحل مع (الراحلين من العرب). عاد في آخر أعماله (سرايا بنت الغول) ووقف على أطلال ما كان، مطلِقاً تنهيدة واسعة، تشير إلى رجل عجوز ذاهب إلى موته موقناً، بحسرة ملتاعة، بأنّ ما كان لن يعود. بدأ حبيبي بالتسليم بالخسارة، لم يكتب عن مقاتل منتصر ولا عن فلسطيني كامل مثل ما فعل غسان وجبرا، وترجم حسّه المأساوي بنثر رقيق يخالطه البكاء. جمع حسين البرغوثي، الذي قتله السرطان قبل أربع سنوات، الحزن الفلسطيني كله في عمله (سأكون بين اللوز)، راثياً مكاناً فقد أهله وأغانيه وحيواناته وحكاياته، وحفظ ما كان ورحل في ذاكرة متألمة، تساوي بين روح الإنسان وروح أرضه. ولعلّ هذا الإيمان، الذي يحتاجه جميع المضطهدين، هو الذي جعل حسين، الذي لم يكمل الخمسين عاماً، يؤمن بأنّ الفلسطيني امتداد لأرضه. فكما أنّ الزيت امتداد لزيتونه، والزيتون امتداد للجبل الذي ينبت فيه، فإنّ روح الفلسطيني من روح الزيت والزيتون والجبل الفلسطيني الذي جاء منذ زمن قديم، ويظل كما جاء إلى الأبد.
بماذا يعتصم الفلسطينيون بعد ستين عاماً على نكبتهم؟ يعتصمون بالذاكرة، التي تجعل من الأحفاد امتداداً للأجداد، وبالمقاومة، التي تواجه الاحتلال بالكرامة، وبالأمل الذي لا تستقيم الحياة من دونه. وهذا الأمل، الذي تستنهضه الكتابة الأدبية وتسجّل مساره وآثاره وأقداره، هو الذي يعيّن الأدب الفلسطيني مرآة لذاكرة جماعية، تمتد من جبل إلى جبل، ومن أديب إلى آخر، مثلما يمتد الجبل في زيتونه والزيتون في زيته.