لا تعني هذه العبارة الثقافيّة الشهيرة، في هذا السياق، بأنّني أنوي التوقّف عن الرواية، بل سأوظّفها للدلالة على أنّني سآخذ استراحة محارب من رواية ما يتعلّق بالأدب، لأنتقل إلى رواية ما يتعلّق بالرسم، ومع ذلك لن نغادر في هذه الاستراحة التشكيليّة عالم (ألف ليلة وليلة)، فهذا هو عنوان آخر معرض للفنان السوريّ العالميّ (سعد يكن).
ليس تفرّد (سعد يكن) وشهرته، وأهميّة تجربته فقط هو ما دفعني إلى الكتابة عنه، بل هي حركة الامتداد الصامتة للفنّ التشكيليّ في الثقافة العربيّة في الوقت الراهن، ففي لقاء جميل مع أدونيس الشهر الماضي في حلب، تحدّثنا عن تغيّر دور الشعر تاريخيّاً، وعن مستقبل الشعر العربيّ، فقال: لست قلقاً على الشعر من طغيان الرواية، إذ ما يلفت الانتباه أكثر هو سطوة الفنّ التشكيليّ على الثقافة العربيّة، وذلك لجديّة التجارب التشكيليّة، فإذا ما قيل لي: سمّ خمسة من الشعراء العرب المعاصرين الذين يستحقّون دخول العالميّة، فسأتردّد كثيراً، وربما سأعتذر، أمّا إذا قيل لي: سمّ خمسة تشكيليين، فلن أتردّد، وأستطيع أن أفعل!
لعلّ تجربة (سعد يكن) الذي بدأ بالانتشار على الساحتين السوريّة والعربيّة منذ سبعينيّات القرن العشرين، تحظى بأهميّة خاصّة، إذ انتهج لذاته أسلوباً لا يشبه سواه في التعبير، فهو رسّام حالات، ومواقف، وأفكار، أي رسّام الفكرة المجرّدة، فيمكنك أن تقرأ في أعماله جماليّات القبح، مثلما ترى الجمال، والبطولة، والعذاب، والحريّة، لا الجميل، والمعذّب، والبطوليّ، والمتحرّر، وهو ينتهج الأسلوب التعبيريّ بطريقة خاصّة تقوم على تحوير الأشكال، والانزياح عن الأصول، بحيث تستطيع أن ترى اللوحة فتقول: لا بدّ من أنّها موقّعة باسم (سعد يكن)، الذي انتقل مؤخّراً إلى المعارض ذات الطابع الملحميّ، فمن (الطوفان ونساء)، إلى (جلجامش)، إلى (نحو أيقونة حلبيّة)، ف(الطرب في حلب)، و(قضيّة العائلة الفلسطينيّة)، و(التحرّر)، ثمّ (ألف ليلة وليلة).
لقد لفتني صدور لوحات المعرض الأخير في كتاب أنيق، مع نصوص كتبها الفنان بقلمه، وتمثل النصوص رؤيته لبعض شخصيّات (ألف ليلة وليلة)، بلغة مميزة لا تنقصها الروح الحكائيّة!.
كتب الرسّام نصّاً بعنوان (الحمّال)، يقول فيه: (أحلام هذا الرجل تمتدّ إلى نصف متر قدّامه، فهو لا يرى سوى الطريق والطعام والشراب. لم يشتر يوماً من السوق أفكاراً تروي تفاصيل النساء والأبطال، ولم يدخل في حالات لا يعرفها...).
وكتب تحت عنوان (شهرزاد): (يقال إنّها ولدت من زهرة، ويقال إنّها جاءت من الصخر، يقال إنّها ولدت من النار، ويقال أيضاً إنّها خرجت من الماء، وهذا هو سرّ قدرتها على استحضار حوريّات البحور السبعة.).
لا شكّ في أنّ القدرة التعبيريّة كامنة في الذات الإنسانيّة، وتتجلّى بأدوات شتّى: الكلمة، واللون، والحجر، والحركة، واللحن... لكن حينما لا تكفي أداة واحدة في التعبير، أو لا تشبع رغبة المبدع في إطلاق الموضوع الممزوج بمكنونات نفسه، فقد يعني ذلك قصوراً من المبدع في إمكانيّة التعبير، أو قصور الأداة في إطلاق ذات المبدع، وأنا أرجّح الأخيرة، فقد تقصر اللغة مهما بلغت طاقتها البلاغيّة عن أداء ما يعتمل في النفس، فينتقل المبدع إلى اللون، أو بالعكس، ولعلّ مبدعين كباراً عرفناهم يرسمون ويكتبون، فالتشكيلي العالمي (فاتح المدرس) كتب القصّة، و(عبد السلام العجيلي) كان يرسم، وأدونيس يرسم أيضاً...
قد يلحظ متلقّي لوحات (ألف ليلة وليلة)، تجلّيها برؤية مضادّة للرؤية الاستشراقيّة، وهذا فعل ثقافيّ بحدّ ذاته، بل هي رؤية مفكّكة للنمط الذي عرفناه منذ القرن الثامن عشر، أي مع ترجمة النصّ عن العربيّة، إذ تظهر الشخصيّات الأخرى، غير شهرزاد وشهريار متفوّقة بحضورها الكميّ والنوعيّ، لتكون تحت الضوء. لقد عُرف عن (ألف ليلة وليلة) بأنّها انتصار لحكايات الهامش على حكايات المتن في الثقافة، وفي النصّ التشكيليّ نجد حضوراً لهامش الهامش، ممّا يؤكّد قدرة الفنّ على تبديل مواقع الناس وأدوارهم في التاريخ، إذ تضاف مشاهد جديدة إلى السفر المكتوب، فتحضر الأفعى، والتنين، والحمامة.
ليس ثمّة زخارف في قصر شهريار، وليس ثمة بذخ في عالمه، بل يغيب اللون الذهبيّ الأكثر قرباً من هذا العالم، والأكثر تعالقاً بالثقافة الإسلاميّة، لصالح الأزرق الداكن، والورديّ، فالأحمر، كما لا يبدو الأخضر، اللون الإسلاميّ الثاني، إلاّ لماماً. قد يعود ذلك إلى أنّ المشاهد في غالبيّتها تجسّد المرحلة من الليل إلى طلوع الفجر.
يظهر الديك بقوّة، وكأنّ حضوره معادل موضوعيّ لعبارة (وأدرك شهرزاد الصباح)، وتذكّرنا المقاطع المتناولة من قصر شهريار بمشاهد من قلاع القرون الوسطى ففي أوربة. يظهر شهريار حزيناً ومطرقاً دائماً، وكأنّه معذّب بسؤال الوجود، ليس ثمة فرح في حياة (ألف ليلة وليلة)، بل وجوم في القصر، ووجوم في الحديقة، حتى في اللحظات الأكثر حميميّة.
تظهر شهرزاد امرأة غير جميلة على الإطلاق، وتبدو أماً حانية مترفّقة، لا زوجة ولا عشيقة، واثقة، غير خائفة لا من القتل، ولا من سطوة الرجل، إنّها امرأة لا تريد أن تحرر ذاتها، بل تريد عبر المعرفة تحرير شهريار من حزنه الأزليّ.