في هذا المحيط الشعري، وهذه البيئة الثقافية المحلقة بضروب الفكر الإنساني.. التي تجعل الإنسان يتساءل: من أين جاء.. وكيف.. ومتى؟ ثم لا يجد جواباً لتساؤلاته.. نشأ وترعرع (حاتم) فكان ابن بيئته.. كان شاعراً مثل من سبقوه، وجايلوه.. لكن (شعره) لم يكن هو موضوعه.. ولا قضيته، فقد كان شعره (شخصياً، ينطق بشخصية صاحبه) كما قال مقدم ديوانه.. كان سيرة ذاتية ل(حياته).. وكان تسجيلاً لأحداث أيامه، ووسيلة أولى لشرح قضيته والدفاع عن موضوعه الأساسي: الجود والكرم.. أو (المال) وفلسفة رؤيته في اقتسامه، والتي اختلف فيها مع أقرب الناس وأحبهم إلى نفسه.. فكان أولهم: (جده).. سعد بن الحشرج، الذي كفله ورعاه بعد أن مات عنه والده وتركه صبياً، فقد اكتشف (هذا.. الجد) أن حفيده لا يتناول الطعام الذي يُقدم إليه.. ولكنه يخرج به إلى الناس بحثاً عمن يأكله معه. فإن وجد أحداً أكله معه.. وإن لم يجد طرحه جانباً ولم يذق منه لقمة. وعندما تكرر ذلك منه.. أرتأى جده أن يبعث به إلى مرعى إبله بعد أن وهبه جارية وفرساً وفلواً (ابن الفرس)، وهناك أخذ (حاتم) يبحث عن الناس.. وإذا بثلاثة من عيونهم يأتونه ذات يوم وهم في طريقهم إلى النعمان بن المنذر ملك الحيرة.. يسألونه أن يكرمهم أو كما كان يقول العرب آنذاك (بعض القرى)، فرحب بهم.. ونحر لهم ثلاثاً من إبله.. فقال أحدهم: كان يكفينا بعض اللبن، فإن كنت متكلفاً.. فقد كانت تكفينا بكر واحدة لا ثلاث، فأجابهم بفطنة وذكاء: (كنت أعرف ذلك ولكنني رأيت وجوهاً مختلفة، وألواناً متفرقة فظنت أن البلدان غير واحدة، فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه).. فامتدحوه وأثنوا عليه وقالوا فيه شعراً يملأ القلوب والعقول اعتزازاً به، فقال لهم (حاتم): (أردت أن أحسن إليكم، فكان لكم الفضل علي، وإني أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها.. إن لم تقدموا فتقتسموها). ففعلوا.. فكان نصيب كل واحد منهم تسعين بعيراً، فلما سمع جده.. بما فعل، أتاه يسأله: أين الإبل؟
فقال له حاتم: (طرقتك بها مجد الدهر.. عوضاً عن إبلك).
فقال جده: أبإبلي فعلت؟
قال حاتم: نعم.
فقال جده: والله لا أساكنك أبداً، وخرج بأهله وترك حاتماً ومعه جاريته وفرسه وفلوها.. وخلفه في داره ومضى.. فلم يبك حاتم فراق جده.. ولكنه بسط رؤيته فيما فعل شعراً، وهو يقول:
وإني لعف الفقر، مشترك الغنى
وودك شكل لا يوافقه شكلي
وشكلي شكل لا يقوم بمثله
من الناس إلا كل ذي نيقة مثلي
ولي نيقة في المجد والبذل لم تكن
تأنقها فيما مضى، أحد.. قبلي
وأجعل مالي دون عرضي، جُنة
لنفسي، فأستغني بما كان من فضلي
ولي مع بذل المال والبأس صولة
إذا الحرب أبدت من نواجذها العُصْلِ
وربما يبدو عجيباً أن يتكرر موقفه من (جده) مع ابنته (سفانة).. كبرى ولده فيما بعد، فقد كانت شماء أبية كريمة كأبيها.. وكانت نظرتها إلى المال لا تختلف عن نظرته، وقد لاحظ حاتم أنه كلما أعطاها أي عدد من الإبل.. كانت تقوم باقتسامها مع الآخرين وتوزيعها عليهم.. فلا تبقى لنفسها شيئاً، وعندما تكرر منها ذلك.. جاءها والدها ليقول لها: (يا بنية إن القويين إذا اجتمعا في المال.. أتلفاه.. فإما أن أعطي وتمسكي. أو أمسك وتعطي). فقالت له: والله لا أمسك أبداً. فقال: وأنا لا أمسك! فقالت: إذاً لا نتجاور.. فقاسمها مالها وتباينا..!؟
لكن هذا (العجب) سرعان ما يتبدد أمام أصالة مواقف حاتم من (المال)، وضروب الاستفادة منه.. لا التباهي به، وهو يكشف عن ذات نفسه.. عندما قال:
أبيت خميص البطن، مضطمر الحشى
حياء، أخاف الذم أن اتضلعا
ثم يكرر الكشف عن ذاته ثانية.. وبصورة أخرى أشد عمقاً وأبلغ وضوحاً:
وإني لأخزى أن تُرى بي بطنةٌ
وجارات بيتي طاويات، ونُحَّفُ
إذ إنه منذ أن اقترن - بعد رحيل (أم سفانة) - بزوجته الثانية جميلة جميلات عصرها، والتي كانت وحدها بين نساء ذلك الزمان التي لا تتزوج إلا بمن تريد: (ماوية بنت عبدالله بن عفزر).. قال لها:
أيا بنت عبدالله، وابنة مالك
ويا ابنة ذي البردين، والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد، فالتمسي له
أكيلاً، فاني لست آكِلَه وحدي
ثم فصل لها مواقفه من الثروة والمال.. وهو يقول:
أماويَّ! إن المال غاد ورائح
ويبقى من المال، الأحاديث والذكرُ
أماويَّ! إني لا أقول لسائل
إذا جاء يوماً، حل في مالنا نزرُ
أماويّ! ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدرُ
إذا أنا دلاّني الذين أحبهم
لملحودةِ، زلجٌ جوانبها غبر
وراحوا عجالاً ينفضون أكفهم
يقولون: قد دمى أناملنا الحفْرُ
أماويّ! إن يصبح صداي بقفرة
من الأرض لا ماء هناك ولا خمر
ترى أن ما أهلكتُ لم يك ضرني
وإن يديّ مما بخلتُ به صفر
ثم يهمس إلى زوجه.. قائلاً:
لا تستري قِدْري إذ ما طبختها
على إذا ما تطبخين حرام
ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي
بجزل، إذا أوقدت لا بضرامِ
ولكن همسه لزوجه.. يتحول إلى أمر لغلامه إذا جن الليل واشتدت الرياح الباردة:
أوقد، فإن الليل ليل قرُّ
والريح، يا موقد ريح صرّ
عسى يرى نارك من يمرّ
إن جلبت ضيفاً، فأنت حر
كان واضحاً أن فلسفة حاتم المشتركة في الغنى.. لم تكن منفصلة عن فلسفته ورؤيته لحياته وللحياة إجمالاً، ففي حديثه عن ذاته، وفي (العهد) الذي ألزم به نفسه، وأسماه مؤرخوه - دون تمعن ب (وصية حاتم) - تتضح رؤيته الجماعية أو المشتركة.. وكما هي حاله في المال أو الغنى، فعن نفسه ومواقفه، ورؤيته.. يقول:
كريمٌ، لا أبيتُ الليل جادٍ
أعدد بالأنامل ما رُزيتُ
إذا ما بت أشربُ، فوق ري
لسكر في الشراب، فلا رويتُ
إذا ما بت أختل عرسَ جاري
ليخفيني الظلامُ، فلا خفيتُ
وفي (عهده) الذي أخذ به نفسه.. طوال حياته، كان يقول:
(إني أعاهدكم من نفسي بثلاث: ما خاتلت جارة لي قط أراودها عن نفسها، ولا أؤتمنت على أمانة إلا قضيتها، ولا أتي أحد من قبلي بسوء)، ولكن يبدو أن توقيت إعلانه لذلك العهد.. الذي جاء متأخراً بعض الشيء.. وربما قبيل موته.. هو الذي جعل مؤرخي حياته يذهبون إلى الظن بأنه (وصية) من حاتم لمن يأتي بعده، لا (عهد) ألزم به نفسه أمام أبناء قبيلته من (طيء) ومن حولها؟!
لقد كان من سوء أقدار (حاتم).. ألا يدرك (الإسلام) ودعوته الباهرة ل(التوحيد) والعدل والمساواة، فقد رحل إلى الرفيق الأعلى.. قبيل بعثة خاتم الرسل والأنبياء محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - بست سنوات، ولكن ابنته (سفانة) وابنه (عدي).. أدركا الرسالة، ودخلا الإسلام.. فكانت ل(سفانة) قصة عند دخولها الإسلام رواها أمير المؤمنين، الإمام علي بن أبي طالب في خلافته.. فيما بعد، عندما قال: (لما أُتي بسبايا طيء، وقفت جميلة، فلما رأيتها أعجبت بها، فلما تكلمت نسيت جمالها لفصاحتها.
فقد قالت: يا محمد، إن رأيت أن تخلي سبيلي ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي! وإن أبي كان يفك العاني ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويفشي السلام، ولا يرد طالباً حاجة قط أنا ابنة حاتم الطائي). فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (يا جارية، هذه صفات المؤمنين، خلوا عنها.. فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق).
ولم تقف عبقرية آل حاتم عند ابنته (سفانة).. بل امتدت إلى ابن أخيها.. إلى (الطرماح بن عدي) الذي رأى الحسين بن علي ومعه آحاد من الرجال عند خروجه لملاقاة يزيد بن معاوية، فقال له: (إني والله لأنظر فما أرى معك أحداً، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى يستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك جبلنا الذي يدعى أجا، امتنعنا به والله من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر.. فلم ينزل بنا ذل قط، فأسير معكم حتى أنزلك القرية (المقصود حائل.. كما كانت تسمى قديماً)، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجا وسلمى من طيء، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طيء.. رجالاً وركباناً.. ثم أقم فينا ما بدا لك.. فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم والله لا يوصل إليك). فكان (الطرماح) بذلك.. وكأنه صوت جده (حاتم).. وخلقه.. ومروءته.. ونصرته ل(المظلوم).
كان تجسيداً حياً لمن غابت صورته.. وبقيت أفعاله ليتوارثها الأبناء والأحفاد عن الآباء والأجداد.
لقد قدم (حاتم).. بكل ذلك الذي فعله وقاله نموذجاً إنسانياً فريداً، عربي الجذور والملامح والسمات.. ليشكل مع (حلف الفضول)، وحيوات وإبداعات كوكبة المثقفين الذين جايلوه وسبقوه ممن كان يكتب نتاجهم بماء الذهب ويعلق في جوف الكعبة.. وثيقة تاريخية: رفيعة الشأن.. عالية القدر.. باهرة المعايير، ربما.. لا تمتلك مثلها.. وبمعيار زمانها أي أمة من أمم الأرض.
لكن (الأعجوبة) حقاً.. أن حملة هذه الوثيقة التاريخية، ينامون الآن على محفة.. بانتظار لحظة لحدهم. لحظة دفنهم.
إن المصاب.. لفادح!!
* محاضرة كان مقرراً إلقاؤها في نادي حائل الأدبي، ثم اعتذر المحاضر وتنشرها (الثقافية).