والقراءة متحركة والوشاية المضاف إليها وشاية القراءة ثابتة، والقراءة تعبر عن موقف بين الانفعال والفعل. والتجربة جزء من الرؤية الفلسفية والأدبية قد تتساوق مستقبلاً مع مفردات الرؤية المعرفية والفنية فتكون خيطاً قابلاً للدخول في نسيج الرؤية، وقد تقف على الحافة من ذلك. والشعرية توحي بدخول هذا الكلام المقروء باحة الشعر وانتسابه إلى القول الموزون المقفى الدال على معنى خصّبه الوجدان من حالات المادة إلى حالات الصورة المثيرة للاستفزاز الوجداني، والذهني على حد سواء.
والحداثية يقصد منها أولية الأشياء وجدتها وليس فلسفتها التغييرية كما هو الفهم القار للحداثة في أصولها الوظيفية.
وديوان الأستاذ محمد بن مشعل الشدوي (وشاية عطر) الصادر عن النادي الأدبي بالباحة سنة 1428هـ يوهمك منذ المفردة الأولى من مفردتي العنوان المتضايقتين بأن الوشاية فيه تتجه إلى المعنى غير المرغوب فيه سلوكياً وهو النميمة، والكذب، والمغالاة في الكلام والاستعداء لدى الأقوياء للنيل من غيرهم، لأن مزاج العصر في هذه اللحظة التاريخية مشوب بالتناكر، ومشبع بصور القبحيات وما يكدر الصفو، ويشيع الغبش في الأذهان والأحاسيس، فإذا ضرب ذلك كله في قاع الوجدان، وعشعش في جنباته صعب انتزاعه من الدواخل، إذا تمكن هذا من طبعها بطابعه وران عليها زمناً استسلم فيه لذلك. والعطر. الطيب. جمع عطور. والعاطر محب العطر. والعطار بائعه. والعطارة حرفته.
قد يستخلص العطر من أزاهير الأرض مجتمعة أو منفردة واحدة واحدة، كما يستخلص من المادة الكيميائية، ومن دم بعض الحيوان كالمسك مثلاً وهكذا تتعدد مصادر العطر، لكن الشدوي رمز إلى عطره بمصدر الوردة الحمراء وليست أي وردة، جاء بها منكّرة، واختزل العطر فيها، والورد من كل شجرة نوْرُها.
واللون الأحمر للورد هو الدارج على الألسنة في وصف حسن الشيء ومنه الخد، فتقول الخد كالوردة في النعومة وفي صفاء اللون أياً كان نوعه، لكن الأحمر ارتبط بغير مناسبة متصورة أو واقعة وحقيقة. ولسنا هنا في موقف المحاكمة الفنية لاختيار الشاعر الوردة مفردة من بين مصادر العطور ولا اللون الأحمر من بين ألوان النّوّار العطري، بما هو ما بعد الوشاية البدء. وكنت تجاذبت مع الشدوي بعض أطراف الحديث في موسيقى الشعر العربي قبل صدور هذه الوشاية لمحت من خلاله في الشدوي حساً موسيقياً قويماً عندما كان يتحدث عن بعض الأوزان التي تكون مدار الحديث لكنه في الوشاية قد يتداخل في بعض أوزان قصائده غير وزن موسيقي أحياناً قليلة ونادرة، إننا إذا أدرنا مفهوم الوشاية حول دلالاتها المرغوب في تحصيلها والتجمل بها من مثل الوشي الذي يشير إلى جماليات النقش من كل لون، والحسن، والجميل كفرند السيف مثلا، ومن ذلك تحسين الكلام الذي يتباصر فيه الحاكي بالمصداقية، وجهد المعاناة في التعبير عما يزعجه ويستفزه من قضايا الكون، فيكون المبدع والحالة هذه وشّاءً كالمعدن الذي يستخرج منه الذهب، وقد وصفوا الضاربين للذهب بالوشائين.
وشعر الشدوي لا يخلو من عروق الذهب كما كان يحلو للنقد التراثي عندما كان يبحث فيما سماه عروق الذهب من الشعر العربي. وبإمكان قارئ هذه الوشاية العطرية الجديدة أن يجد فيها روح البدايات الوجدانية الرومانسية التي تنسجم مع العمر الشعري الذي تلمسه دائماً في صور التجارب الشعرية في أوليات صنعة الشعر. وإن كان اللون الأحمر له غير شعاع رامز. فهو معطى طبيعي يتشكل في غير مظهر من مظاهر الطبيعة المجردة والمعنوية. وتمظهرها في صورة وردة حمراء في ديوان محمد قد تلمس منه ميل هذا المعطار الشدوي إلى هذا اللون الأحمر وهذه المفردة العطرية الوردة دون غيرها، وهذا الموقف نتيجة طبيعية للعاطر المحب للعطر، واللون الأحمر فيه دوال الكرم، والحسن، والحب، وفيه معنى الحياة وضدها، ولولا اهتمام الشاعر بالوردة الحمراء لما جعلها عتبة الديوان الغلافيّة بعد اسم الديوان، ولما أوصد بها ديوانه في الغلاف الخارجي، لقد ملكت الوردة على هذا الشدوي مدخلاته ومخرجاته الشعرية، المدخلات منذ رسم العنوان، فالبدء بالقصيدة الأولى التي تحمل اسم الديوان، التي جمع في صدر بيتها الأول الفعل الحركي الديناميكي (وشت) وفضح الواشي فعلاً موصوفاً، ومتعلقات الوشاية التي تشير إلى المفعولية في الجار والمجرور (بك) فأنت أمام وشاية متعمدة. إنها وشاية البداية، أو ظهور النَّوْر من الأكمام لينشر، وينثر عبيره لمحبيه، ومستقبليه، فهل هذه الوشاية ستتاح لها فرصة الذيوع والانتشار والتمكين الفني في عالم الفن الشعري، هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمات. انظر إلى اسم الديوان، وأسماء القصائد فيه وما يحيل إليه ذلك كله من وشاية تتعدد مسالكها تمهيداً للبحث من غير حل، خذ على سبيل المثال القصيدة الأولى من الديوان (وشاية عطر) كيف بعثت هذه الوشاية الدينمايكية الحية حركة مستمرة من خلال الجملة الفعلية التي تركبت منها عتبات العبارة الشعرية في أبيات القصيدة جميعها. لم يكن صدر البيت الثاني عشر سوى استراحة حركي عاد ليمارس حركة الفعل في عجز ذلك البيت.
إن هذه القراءة العجلى تعد قراءة تحية وتقدير لهذا الشاعر المنتظر الذي نثر ما في كنانته الفنية عبقاً ضوّع به فضاء الشعر وأهداه إلى محبيه وشاية تستحق التشجيع، ورد تحية الإهداء بعبارات الشكر والتقدير.