نكمل اليوم معاً جولتنا السياحية الأولى التي اختارتنا ولم نخترها، جولة في مخمّسة شعرية، لا ضير عندي إن قلت إنها مغامرة مع نصّ يلعب لعبة الحب والحرب، لعبة الماضي والحاضر، والموت والحياة.. لقد توقف بنا الزمن القرائي للنص ونحن على مشارف حديث حول الأنثى في النص وتلك الجسور الممتدة بينها وبين الحرب والوطن الفقيد فيكون التأوّه خير ما يبدأ به النص لوحته:
أوّاه من ذكرى خيال عادني
بعد المشيب وما سلوت وزادني
ولها بحبّ وقرب هذا الشادن
ما أغرب التاريخ كيف أعادني
لحفيدة سمراء من أحفادي
فهذه التأوّه المحترق من عمق النفس المتداعية في تاريخها وماضيها، والمتهالكة بسبب واقعها يخرج للمتلقي مع صوت الهمزة والواو المشدّدة ثم الهاء ليرسم لوحة الألم العميق والتحسر المشبوب، فمن المعلوم أن الهمزة والهاء من الحروف الحلقية وإن كنت الهمزة تسبق الهاء في مخرجها إلا أن وجودهما معاً في هذه الكلمة يتوسط الواو المشدّدة كإشارة لتلك الغصة المحتبسة في حلق المتألم المتحسر التي سربتها الواو المشددة فكانت موحية بطريقة ما إلى تعجب ضامر في النفس هذا التعجب نفسه الذي ترى الإنسان يستخدم عند التعبير عنه (واو) أو (وَيْ) ولما كان الألم أقوى في هذا المقام تغلّب على التعجب فتشاركت هذه الحروف في منظومة لفظية نغمية باهرة تسقط في نفس المتلقي قبل سمعه (أوّاه) وما يؤكّد هذه المعاني قول النص: (ما أغرب التاريخ) فهذه صيغة تعجب جاءت قرينة للمعاني المذكورة! والمحب العاشق يتأوّه وكذلك المحارب والغريب عن الوطن يفعل، فيكون التأوه فعلاً مشاركاً بين عدد من النماذج الإنسانية التي يحتملها المشهد الشعري في هذه المقطوعة، ويتمثلها النص بصوت الذات المتأوّهة.
إنه (الخيال) الذي يمارس سُلطته على النص، فهو القناة التي من خلالها يسترجع النص مشاهد فيحنّ حنيناً يزيد من أوجاعه، لذلك يتشكى من هذا الخيال وذكراه إذ يقع بسببه في مواجهة مكشوفة مع (المشيب) المعادل في النص للموت والفناء، وهنا تحضر روح القلق بقوة، فالماضي يُفترض أنه انتهى ومات، والحاضر هو الحياة، ولكن المفارقة في هذا النص أن الماضي هو الحياة التي تمثلتها الذكرى وألبستها صورة الأنثى الحية الجميلة بكل ما فيها من رموز الحب والجمال وغداً الحاضر بالمشيب الذي فيه موت ينتظر وقوعه وهو من المفارقة العجيبة! ثم تأمل استحضار (الحفيدة السمراء) التي لم يجعلها حبيبة مباشرة ليمعن النص في مزيد من القلق بسبب هذه المساحة الزمانية المرسومة بين ما تعيشه الذات وما تتوقع حصوله، فعندما يكون هو الجد سيكون هو الأقرب للموت ولكن بظهور الحفيدة التي يصر على نعتها بالسمراء ستكون حياة الماضي ماثلة أمامه من جديد، وما السمرة إلا لازمة عرفها العربي في المرأة العربية التي لم تخالطها عروق الأعاجم!
ولأنها العربية السمراء كان من الأولى أن تطالعنا صورتها في (القمر) الذي يشكل مع الأنثى اللوحة الاعتيادية التي لم نملّ يوماً قراءتها في شعرنا العربي، لوحة تكون الأنثى فيها القمر، ولكنها هنا (قمر) تحلى بسمَتَيْن: الجمال والجلال، والفرق بينهما في اللغة كون الجميل ما ندرك حسنه وحلاوته ونتمكن من تملكه دون خوف، أما الجليل فهو ما ندرك جماله وحسنه لكنه يخيفنا لأننا لا نتمكن من ممارسة سلطة التملك عليه فهو محمول دائماً بالأسرار، ألا ترى البحر جليلاً والطفل جميلاً! لذلك قال: (ما نلت منه حرامه وحلاله) فانتفاء الملكية والنيل سببه الحلال الذي وقع في الوصف فأخرج الأنثى هنا من الاحتباس في فلك الجميل السهل المنال وهو ما يضمر دلالة قوية لشرف وعزة حفيدة عربية فكيف بالعرب أنفسهم؟ إنها الوجه الأبي للشرف العربي الأصيل لذلك حمله النص ملامح (دمشق) أقدم عاصمة في التاريخ الحضاري ومعقل الفاتحين للأندلس من بني أمية والصامدة عبر كل العصور والحروب، إن الأنثى هنا هي الوطن هي العروبة، هي العزة، التي تشاركت في نحت تمثال وطنيتها أسماء أخرى (بلقيس/ سعاد) وبلقيس هي ملكة اليمن الرشيدة القوية الحكيمة وسعاد من رموز المحبوبة العربية الخالدة بجمالها في خارطة الشعر (بانت سعاد) منذ عصور طويلة، فتكون (السمراء) هي المدينة العربية العريقة، هي الوطن الجميل الحكيم الأصيل، ويكون الجمال هنا بشقيه المادي والمعنوي أو الجسدي (الجيد) والعقلي) حكمة بلقيس).
وحتى لا يغرق المتلقي في مزيد من الأسى يخوض النص عالمه الحي - الماضي - بما فيه من (شقاوة/ نفس حرة/ طفولة) ولكنه خوض خاطف مشبوب بأماني العودة إلى الماضي عبر تدرج ساهم التخميس في فعله بشكل جذّاب عندما ابتدأه بالشباب:
وذكرت أيام الشباب.. وشرّة
وشقاوة ولت.. ونفساً حرّة
ليت الزمان!! يعيدها لو مرّة
ورأيت منزلنا القديم.. وحجرة
كانت بها أمي تمدّ وسادي
ولعلّ مجيء (شقاوة) أعطى ما تحمله هذه الكلمة من حركة مستمرة ولهو ولعب ومتعة تصبّ في ثوب البراءة وليس التخابث، إذ تعارف العامَّة على إطلاق لقب (الشقي) على الطفل الكثير الحركة والجريء والمغامر وعندما توصف بها مرحلة الشباب تفوز بملامح البراءة الطفولية وتتخلص من الخبث أو السوء وهو ما جعل تلاوة المشهد الطفلوي الهادئ (كانت بها أمي تمدّ وسادتي) كخاتمة رائقة لكل هذا الجهد المبذول من الشقاوة وبالتالي الحاجة الملحة للنوم الهادئ بين أحضان الأم الذي هو السكون والسكينة فتعود الأنثى من جديد ولكن بصورة الحبيبة الأولى أي الأم. وما أعذب السُّكْر الذي تصنعه الصورة الماثلة في قوله:
وعرائشا نشوى بحمل كرومها
والطير والأزهار بعض نديمه
تشدو فتسكر من جميل رنيمها
والياسمينة، رصعت بنجومها
والبركة الذهبية الإنشاد
وليسمح لي القارئ أن أقف بكل شفافية وأبوح له بأن النص الجهني تفوق في هذا المقطع على النص النزاري! فالعرائش هي التي تحمل الكروم والعنب لا يسمى كروماً إلا إذا زرع من أجل تخميره فلما يُسْكر حامله من الخشب وهو بعد لم يتخمر ماذا سيصنع بعد ذلك إذن؟ ثم تأمل بهاء الصورة المخرجة عندما أبعدت السُّكْر عن القبح بأن جعلته واقعاً بسبب الجمال فقط! نعم الجمال، فنشوة العرائش ميلان واهتزاز ظهر بسبب ثقل الثمار عليها وهو ما جعلها كالثمل الذي لم يستفق من سُكرته فمال على نفسه، وكان الندماء هنا عناصر رقة وجمال تحمل الصوت الجميل (الطير) والرائحة الزكية (الأزهار) وبذلك انتفى قُبح صوت السُّكارى أو عفن رائحة الخمر عن اللوحة فتم الجمال وظهرت النشوى بسُكر قام بالجمال وحده، وعذوبته تعلو بعلو الشدو والترنيم، وهما أصوات رقيقة تصدر عن المنتشي السعيد وتكون منخفضة في أولها وتعلو بعد ذلك لشدّة السعادة!! يعقبه اكتمال الجمال بالياسمينة التي هي زهرة دمشق الأولى، ثم ذِكْر البركة واقترانها بمزيد من الإنشاد لتشارك الجوقة البديعة في أدائها ويكون لخرير الماء ها هنا خاتمة العزف وقافية الغناء، والإنشاد دائماً يكون جماعياً فتعلو بذلك الموسيقى المسكرة بعزف هو خصيصة تحلت بها دور الشام ونقلتها بعنفوانها وجمالها إلى كل الأندلس فذابت في جمال على جمال، وكأنَّ قطعاً من دمشق حُمِلت وزُرِعَت في بطون الأندلس، وهو ما استحضر الوقفة التالية في النص عندما قال:
الله من نفس كتمت حنينها
وعجزت أكتم بثها وأنينها
قالت: وقد رشح الحياء جبينها
ودمشق.. أين تكون؟ قلت: ترينها
في شعرك المنساب نهر سواد
وعادة عندما يسمع الغناء الجميل أو الصوت الجميل يقول المستمع (الله) بمد الصوت فيها طرباً وانتشاءً!! فيخوض النص بحار الشوق القابع في النفس التي سلبها الماضي لذيذ الحاضر، شوق إلى الحبيبة وإلى المدينة اللتين أصبحتا في لحظة من لحظات الغزل العربي واحداً، إنه التكتم الوديع الذي يراقصه العُشاق ويمارسون لعبته العربية منذ آلاف السنين، ويخرجون نار أشواقهم وزفير حنينهم عبر حروف الشعر وآهات الأنفاس، وبذا يصيبهم هذا الشوق المتأجج بإحساس العجز من جانبين: عجز البوح وعجز الوصال. والنص يبثُّ ذلك فالعجز قد تلبس هذه الذات التي ما قدرت على مقاومة حنينها الى الماضي والوصال معه وهي لم تقاوم جمال الحاضر والبث له بلواعجها وأنينها، وهنا تحول الحنين الذي هو في أصله صوت الإبل إلى أنين، وغدا الشوق ألماً تمارسه الذات وتعيشه، والعروبة بادية في كل استخدام لها، خاصة عندما تقترب أكثر من سواد الشعر الذي تميزت به الحسناء العربية، ثم تأمل ذلك التذويب الذي يمارسه التخييل في هذا الجو من الشوق والحنين والألم ممارساً تذويب الحبيبة في المدينة والعكس ماثل، لتتلبسها جمالية الوطن المفقود فيكشف عن نهاية الحب قبل ابتدائه فما فُقد قديماً سيُفقد الآن من جديد.