قبل الساعة الثامنة التي ماتت على الجدار الأبيض، قبل الصفحة الخامسة من الجريدة المتفحمة، قبل الصوت الذي ترنح وسقطت بعض ذبذباته على الحقيقة، قبل اليد التي على عاثت في أسلاك الهاتف ثم راحت تلطم وجه الموت، قبل الوطن الذي صار يلتهم مواطنيه، قبل المنفى، قبل الحمى، قبل الوجع، وبالضبط قبل تشرين الماضي بثلاث صفعات وجوع.
إذ ذاك، كان المطر يهطل وقلب ما كان يصلي على أرض هذه المدينة المريضة ويبتهل بدعوات العودة والسلامة والغنيمة، الغنيمة الكاذبة التي صدقتها كل النساء هنا حتى صرن يكتحلن ويخضبن أيديهن صباحاً ومساء وهن يجأرن بأمنيات الغنيمة تلك. أما السلامة فهي أن تعود الثياب والأحذية وأوراق الوصايا، تعود بالروائح التي طالما أحببناها معفرة بنتن الموت، كان يجب أن أقف كما كان يجب أن يقفن أمام الأفق الأحمر وأمام غروب الشمس، كان يجب أن نشهد مخاض النهار وولادة الليل حتى ندرك أنه ليس من الضروري أن نتألم ونصرخ لمخاضنا.
أما الوطن، فقبل الشتاء الذي صار يزاحم الصيف فصله، وقبل الأشياء الموقوتة التي لم يكن يعرفها، وقبل الدوي المتفجر من علب الأغذية، وقبل المقابر التي فجأة أعلنت شهيتها القاتلة، وقبل السماء التي صار يلثمها دخان الاحتراق، وقبل الشوارع التي هزها عبور الأكفان التي ما لامستها، وقبل الدم، قبل الضجيج، قبل الصور، قبل العمارة الثائرة التي أسقطها طيران عابث.
هناك، كان علي أن أجمع أوراق الخريف المتساقطة، وأن أرتب الثياب التي تعود سالمة دائماً، أن أخبئ الروائح التي أحبها وأعزل عنها رائحة الموت، أن أكتب وعده خلف الباب حتى لا ينسى، أن أبخر الفساتين التي تنتحب وراء أبواب الخزانة المقفلة، أن أكتحل بباقي الأسى بباقي الانتظار ببياض الجدار بتفحم الجريدة، كان علي أن لا أجادل الوطن حتى في الرائحة التي أشمها من مستودع بيتي الصغير، كان علي أن أتخلى عن أنفي وعليها أن تحتشد في بيتي!، كان علي أن لا أوبخ الوطن عندما يصج في الليل ولا يترك لأحد فرصة النوم، بعد ذلك كان على الجميع أن يتفرج.
أما أنا، فقبل الثلاث صفحات لم أكن أعير أي شيء اهتماماً ما، لم أكن أشهد الغروب، ولم أكن أكتحل إلا بالسواد الفخم، وما كان يعنيني الوطن، ولا الموت، ولا السفر، ولا الحرب. أما قبل تشرين الذي أسقطني وتمرد في دهس أصابعي، قبل تشرين الذي يمر على نافذتي كل مساء يمط لخيبتي لسانه ويصفق بالهواء نافذتي. قبل تشرين الذي يبعث رائحة الموت من المستودع في أقصى بيتي، قبل تشرين الذي يطأ فساتيني البيضاء.. قبل تشرين لم يكن شيئاً على ما يرام.
أما الوعد، فقبل أن ينبت على أطراف الشرفات الموصدة كان حلما، قبل أن يستفيق عل زفرات الأرواح التي شاخت أعلى الأسقف المثقوبة، قبل أن يتجرع العقاقير المرة ويتركها تتسلل خارج شفتيه، قبل أن يغادر السرير مشروخاً برغبة البقاء، قبل أن يفلت من المرآة منكسراً لا يعرف شكله، قبل أن يسمع صوت الوطن، قبل النفور، قبل الهروب، قبل الرصاص والجثث، قبل الوعد المعلق خلف الباب..
وأيضاً قبل تشرين، تغص به الأرض ويغرق به الوطن، يحفر للعطشى قبراً ويعطش قبلهم، يتخطى الأمنيات والغنائم والسلامة ويركض. يتعرى من الحياة ويخلع الأنثى التي لبسها رغماً عنها، يخلعها ويركلها إلى صحراء الوطن، ويركض، إلى أين؟ حيث ينتهي دوران الأرض وتحتضن الشمس صغيرها وتلتحم السماء بالأرض. بالأرض لا بالوطن!.
وأثناء الثامنة صباحاً كانت الأشياء الموقوتة قد انفجرت، والرائحة صارت لا تطاق، وبيتي ومستودعي.. كل شيء يستدعي قراراً أخيراً. دفعني الوطن ذاته إلى تحسس المصيبة التي أتوقعها منه، دفعني إلى أقصى البيت، إلى الباب الحديدي الذي ينام خلفه زوجي، كتبه أوراقه ثيابه السليمة، أحذيته.. صوره..، وبقدم الوطن القوية دفعت الباب، بروح الوطن التي لا تخاف شيئاً دخلت إليه، إلى تشرين الذي أقسم أن يسكن هنا، إلى الرائحة؟ ثيابه كما رتبتها، أحذيته تتراص بأدب، أوراقه تستغرب دخولي دون أن أستأذن! صوره محترقة.
أما الوطن، فشاهد!.. وأما زوجي فشهيد!.. وأما تشرين فتاريخ.. وأما أنا؟ فما قبل العشرين وتشرين.