هذا عنوان كتاب للنحوي المبدع الأستاذ الدكتور محمد عبدو فلفل، وهو عنوان قد يوهم القارئ أنه يتحدث عن لغة النحاة في كتاباتهم وما فيها من شعرية، وليس الأمر كذلك؛ فالنحاة لا يحسنون الكتابة الأدبية الشعرية، وهو قد يوهم بأنه دراسة للغة الشعر على نحو ما فعل نحوي شاعر مبدع هو الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبداللطيف الذي درس لغة الشعر دراسة نحوية رصينة. وغاية هذا الكتاب معالجة مقولة شائعة بين الناس وهي أن النحاة اعتمدوا في تقعيدهم على الشعر في المقام الأول فقدموه على القرآن وغيره من النصوص النثرية. إذن الكتاب دراسة لموقف النحويين من الاستشهاد بالشعر. وقد مهد المؤلف ببيان مفهوم الشاهد عندهم، إذ يتسم بأنه لا يتجاوز عصر الاحتجاج أي منتصف القرن الثاني الهجري، والسمة الثانية أن تبنى القاعدة على ذلك الشاهد فإن لم تبن عليه فهو مثال لا شاهد، والسمة الثالثة أنه لا يؤول بما يخالف القاعدة. ولا شك أن النحويين عنوا بالشاهد الشعري ولكنهم بنوا بعض أحكامهم عليه لا كلها، وقد ميزوا تمييزا واضحًا بين لغة الشعر ولغة النثر، على أن موقفهم من الشعر موقف طبيعي؛ إذ رافق ظهور النحو علوم دينية كان الشعر سندها الأول، وقد رشحت بنية الشعر نصه للحفظ في غياب تدوين النصوص النثرية، ولكن كتب النحويين وإن حفلت بأبيات الشعر فليست كلها للاستشهاد؛ فهذا كتاب سيبويه في معظم أبوابه تبنى القاعدة فيه على الآيات القرآنية ثم يورد البيت ليمثل به ولا يستشهد. وقد يؤتى بالبيت لشرح لفظ، ومعنى ذلك أن النثر، وبخاصة القرآن، كان هو أساس التقعيد لا الشعر، ولعل الذي جعل للشعر كل هذا الحضور في كتب النحويين اهتمامهم برد ما شذ منه وما خالف القواعد بتأويله والتماس التقدير لاستعماله ليحال دون اتهام الشاعر بالخطأ، وما القول بالضرورة الشعرية سوى الباب الواسع لاستيعاب مخالفات الشعراء لقواعد العربية. ويتضح موقف النحويين من الاستشهاد بالشعر من جملة أمور أولها جعلهم حدودًا زمانية ومكانية لهذا الشعر المحتج به، فإن ورد لدى النحوي من الشعر ما هو خارج ذلك النطاق فهو للتمثيل أو للتأويل، والأمر الثاني أن المتقدمين منهم استشهدوا بأبيات مجهولة القائل لأنهم لم يهتموا بنسبتها، ولا يطعن هذا في الاستشهاد بها فليس من أصولهم ترك الاحتجاج بالمجهول القائل، والأمر الثالث موقفهم من تعدد روايات البيت الواحد، فهذا التعدد لا يطعن في حجية البيت؛ لأن رواية الشاعر شاهد، ورواية الرواة شاهد آخر بلغتهم، ويستثنى من ذلك ما ثبت تغييره لنصرة قول أو لإصلاح لفظ، فكان أن رفض الاحتجاج به. والأمر الرابع أنهم لم يكتفوا بالشاهد الشعري وحده بل لابد أن يؤيد بسماع نثري، وهذا يدفع قول بعض المحدثين أن النحويين خلطوا لغة الشعر بلغة النثر. والأمر الخامس أن قول النحويين بالضرورة الشعرية يعني أنه ليس كل ما جاء في الشعر يمكن أن يقعد عليه، وقد نصوا على ظواهر لا يجور أن تقبل في النثر وإن قبلت في الشعر ضرورة.