كنت أعرف ان حالته الصحية صعبة وحرجة، فماذا بعد الفشل الكلوي الذي يضطره للذهاب ثلاث مرات للمصحة لغرض غسل الكلى؟
ورغم المواظبة على العلاج إلا أن مقاومة الجسد تضعف بمرور الأيام، وكنت أتابع حالته بالهاتف وباتصالاتي مع كريمته رنا ومع زوجها وابن خالتها الصديق نبيل نوفل اللذين توليا شؤون دار الآداب للنشر في حين تولى نجله د.سماح إدريس مجلة الآداب التي أضاف إليها الكثير بحماسه وشجاعته وكلها صفات ورثها عن سهيل إدريس الأب.
وعندما نقل لي الصديق الشاعر منصف المزغني نبأ رحيل إدريس بالهاتف كنت عائداً لتوي من المغرب محاولاً ان أجد راحتي في النوم، صحوت على رنين الهاتف وجاءني الخبر الذي كنت أتوقعه والذي أصبح مسألة وقت بالنسبة لأسرته حيث كنت قبل يومين من رحيله في معرض الدار البيضاء مع رنا ونبيل.
أقول من قلبي انني كنت أحس بأن د. سهيل إدريس كان قريباً مني إلى أبعد حد، وكأنني من أسرته التي أعرفها واحداً واحداً، وعايشتها في سنواتي البيروتية في لقاءات تضم أصدقاء نبيلين ورائعين، أذكر منهم: وليد علمية، محمد يوسف نجم، بلقيس الراوي قرينة الشاعر نزار قباني، ديزي الأمير وآخرين، وكانت السيدة عائدة مطرجي إدريس حاضرة بأمومتها وصفائها التي هاجمت رواية إدريس الشهيرة (الحي اللاتيني) فتحول الهجوم إلى زواج وأسرة وصفتها مرة ديزي الأمير بأنها من أجمل الأسر التي عرفتها.
لن أنسى أن (الآداب) كانت أول مجلة عربية تقدمني بعد أن نشرت لي قصتي (الحذر اللذيذ) عام 1962 وقتها كانت الآداب المجلة المركزية للأدب العربي كله، ويكفي أن تنشر فيها نصاً واحداً لتُعرف عربياً وأقول هذا غير مبالغ.
وبمرور السنوات توثقت علاقتي به حتى صرت من أقرب أصدقائه، وربما كنت أول صديق يتصل به في زياراته لتونس وقبلها لبغداد، ومازلت حتى يومنا هذا أعيش حب الآداب ويعرف الأصدقاء أنني إذا ما ذهبت إلى معرض للكتاب سواء في القاهرة أو الدار البيضاء أو تونس فإن من يبحث عني سيجدني في جناح هذه الدار.
عاش د. إدريس محارباً، مؤمناً بأن العرب أمة واحدة وان تعددت أقطارهم ولذا آمن بعبد الناصر إيماناً كبيراً ودافع عن مواقف عبدالناصر في السلم والحرب، وفتح مجلة الآداب للأدباء المصريين الذين لحق بهم الضير في عهد خليفته السادات، كما نشر مؤلفاتهم، ونشر رواية نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) التي منع طبعها في مصر.
وتحمس د. سهيل للتجارب الجديدة في الشعر العربي الحديث ونشر للمصريين صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي ديوانيهما الأولين، ونشر للبياتي والسياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة وحسب الشيخ جعفر ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وفدوى طوقان وخليل حاوي من الشعراء، أما القصاصون سواء من الرواد أو الشباب فهم لا يعدون، منهم: عبدالسلام العجيلي، حنا مينة، شوقي بغدادي، وصولاً إلى جيل الستينيات فما بعدهم.
وفي السنوات الأخيرة عنت دار الآداب بالرواية مترجمة أو موضوعة فصدرت عنها أبرز الأعمال الروائية العربية ولذا لا نستغرب عندما تحصل هذه الدار على جائزتين من جوائز البوكر العربية التي استحدثت هذا العام، ونشرت أعمالا روائية جريئة، وهي الأعمال الأولى لكتابها مثل (حب في السعودية) لإبراهيم بادي السعودي و(سرير الأسرار) للبشير الدامون المغربي اللتين قرأتهما أخيراً، وكل هذا بفضل التوجيه الذي رسمه لدار النشر واهتماماتها.
وكان سهيل إدريس نفسه روائياً بارزاً بعد كتابته لعدد من الروايات المهمة وأكثرها شيوعاً روايته (الحي اللاتيني) وكذلك روايتاه (الخندق العميق) و(أصابعنا التي تحترق) وعدد من المجاميع القصصية فإنه نشر الجزء الأول من سيرته التي كانت نموذجاً للسيرة الشجاعة غير الخائفة. كما أن سهيل إدريس قام بترجمة الأدب الوجودي إلى العربية فعرفه القراء العرب مثل أعمال سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامي علماً أن قرينته عايدة قامت هي الأخرى بترجمة بعض هذه الأعمال.
وأنجز د. سهيل قاموس المنهل الفرنسي العربي الذي يعد بين أهم المعاجم العربية، وكان يشتغل بدأب مع نجله د. سماح لإنجاز معجم المنهل العربي العربي ولكن حالته الصحية حالت دون اتمامه، وقد علمت أن د. سماح يواصل العمل فيه لإنجازه.
لكن د. سهيل كان محارباً - كما قلت - من أجل الكرامة العربية منتصراً لأمته ذائداً عنها في مواقفه وكلماته، رحمه الله.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب ((7902)) ثم أرسلها إلى الكود 82244