لسنوات عديدة، وأنا مثل كثير من القرَّاء الممتدِّين من المحيط إلى الخليج، أتابع مجلَّةً، استحقَّت متابعتنا عن جدارة، فتارةً تغطِّي المستجدِّات، ومرَّةً تمدُّ ذراعيها للجديد الجديد، وطوراً نجدها وهي تضمُّ إلى طاقم كتَّابها اسماً جديداً، نتوق إلى قراءة ما يكتب. تلك هي المجلَّة الثقافيَّة، ابنة جريدة الجزيرة.
ما زالت الثقافيَّة تطلع علينا بملفّ يشفي غليلنا، ويسدُّ فراغاً فيما يصدر من ملفَّات، بل في النتاج الثقافيِّ العربي. وأمَّا موضوع حديثي اليوم فهو أحدث ملفّ أعدَّته الثقافيَّة، ويحلو لي أن أطلق عليه «ملفّ الملفَّات». فكما أنَّ المجلَّة الثقافيَّة ظاهرةٌ خاصَّة بين المجلاّت الثقافيَّة العربيَّة، فإنَّ ملفَّ غسّان تويني كان حدَثاً على مستوى الملفَّات الثقافيَّة التي رأيناها، وقرأناها.
كان ملف تويني حالة من اكتمال الأعراض في الاحتراف الصحفيِّ، فقد ذكَّرني بما درسناه، ودرَّسناه حول مواصفات العمل الصحفيِّ النموذجيِّ، من انكباب المعدِّين على موضوعات أعمالهم الصحفيَّة، وتفرُّغهم لها، وإخلاصهم لمهنتهم. نعم، فقد مثَّل هذا الملفُّ نموذجاً مطلقاً، كان درْساً في فنِّ الصحافة المكتوبة، فلا أحسب أنَّ ملفَّاً كانَ سيُظنُّ أنَّه يستغرق سنة من الإعداد مثلاً، أو أنَّ فريقاً مهولاً من المحترفين سينصرف للعمل عليه. كيف لا، وهم يعدُّون ملفاً حول الكبير غسان تويني، وهو العميد، والعمدة في العمل الصحفيِّ، ومن هنا تأتي صعوبةُ مقاربةِ غسَّان بعمل صحفيّ. إنَّها المرَّة الأولى التي أجد معنى وجدوى لبيع التمر في هَجَر! أنَّه تمرٌ ليس كالتمر، فمرحى لزارعيه، وبائعيه بوجاهةٍ استثنائيِّة في هجر.
فإذا غادرنا الاحتراف الصحفيُّ، فإنَّ الإحساس بالمسؤوليَّة التاريخيَّة، والحساسيَّة تجاه الأعمدة، والمناضلين، والرجال الكبار، والإخلاص للقضايا والرموز، كلُّ ذلك كان حاضراً في ملفِّ الثقافيَّة الظاهرة.
أيُّ ملفّ كان سيضمُّ مشاركات لسموِّ الأمير الحسن بن طلال، ومحمد حسين فضل الله، وجورج خضر، وبطرس غالي، وعمرو موسى، ونبيه بري، وفؤاد السنيورة، ودومينيك دوفلبان، ومايكل هدسون، وأدونيس، وغسان سلامة، وشوفالييه، وروبير مينار، وإريك رولو، وطلال سلمان، وباتريك سيل، وغسان شربل، وعصمت عبد المجيد، وإلياس خوري، وأومليل، وأمين معلوف، وكوليت خوري، والغذامي، وسواهم من الأعلام من لا أنسى، ولكنني أتجاوز قليلاً حتَّى لا أطيل؟ والإجابة: فقط هذا الملفُّ.
لو أنَّ سائلاً سألني: ماذا تقترح لتحسين ملفِّ تويني؟ فسأسرع بالإجابة: لا شيء. فتحيّةً للجنود المخلصين للثقافة العربيَّة، الذين رفعوا قبَّعاتهم تحيَّة لغسَّان، بكلِّ هذا القدر من الاحتراف، تحيَّة لخالد المالك، ولإبراهيم بن عبد الرحمن التركي، ولعبد الكريم العفنان، ولكلِّ من عمِل حتَّى يخرج هذا الملفُّ كما رأيناه، ولهم نرفع القبَّعة، ونسألهم: ماذا بعد؟! لقد وضعتم سقفاً للعمل الصحفيِّ، ولمفهوم الملفَّات. شكراً لكم، لا نريد منكم إلا أن تبقوا كما أنتم.