بعد سنوات من الصبر، وتحمُّل المعاناة، ورفض القبول بالأمر الواقع، بانتظار ما سيأتي ولو بعد طول انتظار، ها هو الشعب الفلسطيني الذي كُتب عليه أن يقدِّم الشهداء من أبنائه واحداً بعد الآخر في مواكب جنائزية، مضحياً بهم في سبيل عدم القبول باحتلال إسرائيل للأرض، والاستيلاء على الحقوق، حتى وإن كبل أحراره وأودع في غياهب السجون من سَلِم منهم من القتل والسحل، حيث بانتظارهم التنكيل من عدوٍّ شرس لا يرحم واعتاد على قهر الأحرار منهم.
* * *
أقول: ها هو هذا الشعب، الذي قدَّم الكثير من التضحيات، يتعرَّض اليوم إلى البطش والقتل والاختطاف وبأسوأ مما فعلتْه وتفعله إسرائيل. وممّن؟!! إنّه من رموزه وقادته والنافذين في منظماته، حيث الاقتتال والصراع على النفوذ والسُّلطة فيما بينهم، وكأنّهم ينفِّذون بذلك مخططاً إسرائيلياً قبيحاً عجز عدوُّهم المشترك على مدى عقود من الزمان عن تنفيذه، وإلاّ كيف يمكن الإقدام على قتل الأبرياء والتنازع على سلطة ومسؤوليات وصلاحيات هي اليوم - كما كانت من قبل - بتصرف حكومة إسرائيل، إذا لم يكن ما يجري على الساحة الفلسطينية هو تنفيذاً غبياً لما تفكر به إسرائيل.
* * *
وحسبنا أمام هذه المشاهد الدامية والمبكية، التي ينزف فيها دم الشهداء ببندقية إخوانهم، بينما كان يجب أن يوفر هذا السلاح لمقاومة المحتل، وأن يضغط على زناده لمواجهة العدو المعتدي، لا أن يكون خنجراً في خاصرة هذا الشعب المغلوب على أمره، والمجرد من حقوقه، فيما يتسابق المتنافسون على سُلطة وزعامة وهمية لا وجود لها على حساب كرامة الشعب وحياته وحقه في العيش والحرية وبناء دولته المستقلة، بعيداً عن الأطماع الشخصية والنزعات السياسية والنظرات القاصرة للحالة التي ينبغي أن يكون عليها شعب فلسطين.
* * *
إنّ القتلة الذين أرخصوا دماء إخوانهم، أياً كانوا، ممن مارسوا القتل أو أمروا به أو أيدوه، يجب أن يحاكموا وتُكشف نواياهم، وأن يُقال فيهم وعنهم ما يُقال عن المجرمين، حتى يضع هذا الشعب نهاية لمآسيه كلها، ويتفرَّغ - مثلما كان - للدفاع عن قضيته وحقوقه أمام إسرائيل، عوضاً عن إشغاله وانشغاله بطموحات شخصية يقودها ويتبناها ويعمل من أجلها نفر هان عليه المواطن الفلسطيني، فكان هذا المشهد الكريه الذي رأيناه في شوارع الأراضي الفلسطينية وفي أبنيتها ومؤسساتها في الضفة والقطاع.
* * *
ولا أحد يمكن تبرئته مما يحدث، حتى وإن ادَّعى حرصه على وحدة الشعب وتآلفه، وسعيه لوضع حد لهذه الدماء النازفة، ما لم يقترن القول بالفعل، وتُكشف الأوراق، ويُعلن عن أولئك الذين مارسوا التهوُّر والاستخفاف بالقضية الكبرى، وبحق هذا الشعب الذي أرخص حياته من أجلها بأمل أن يأتي ذلك اليوم الذي تشرق فيه شمس الحرية على الوطن المسلوب، لا أن يكون هذا اليوم الموعود تنافس على الكراسي حتى ولو كان ذلك على حساب جماجم أبناء الوطن الواحد والخندق الواحد.
* * *
إن أيَّ كلام عن هذه الصور المخزية لهذا الاقتتال الدامي بين أصحاب القضية الواحدة، بين من كان يجب أن يكونوا في خندق واحد، لن يبلغ في تصويره مبلغ هذه المشاهد الدامية، ولن يكون معبّراً عن حالة الجزع والفزع والشعور بالصدمة التي شعر بها كل صاحب ضمير مخلص في الوطن العربي والإسلامي، فضلاً عن الوطن الفلسطيني، وقد آن الأوان لإيقاف هذا العبث بدماء أبناء شعب فلسطين، والعودة إلى الحوار العاقل والحكيم الذي ينهي الأزمة ويضع حدّاً لها، ونهاية لا تعود ثانية ومن جديد إلى السطح.
* * *
وإنّ مراسيم الرئاسة بحل مجلس الوزراء وإعلان حالة الطوارئ، ورفض رئاسة الوزارة لهذه المراسيم وكأنّها لم تكن، إنّما يمثِّل التسارع غير المنتظر في خطى الإجهاز على المقاومة، وإعطاء إسرائيل غطاءً دولياً على سلامة مواقفها طالما يتصرف المسؤولون الفلسطينيون على هذا النحو، ويتراشقون إعلامياً بمثل ما سمعنا من اتهامات متبادلة تضاف إلى القرارات والقرارات المضادة من طرفيْ النزاع، باتجاه الانفصال بين القطاع والضفة في تصرُّف مجنون وخطير ربما قاد إلى ما هو أسوأ في زمن الجوع والضياع والدماء النازفة التي يعاني منها شعب فلسطين.
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «2» ثم أرسلها إلى الكود 82244