* * سادت الأسماءُ المستعارةُ زمنًا، وكان النظامُ صارمًا في عدم النشر دون الاحتفاظ بالاسم الحقيقي لأصحابها، وتكفي الثقة في الحكم حول صدقيةِ الاسمِ وزيفه؛ فلم يكن مطلوبًا للنشر الثقافي إثباتٌ آخر.
* * ارتبطت بداياته في التحرير الثقافي بعدد من الأسماء المستعارة التي فضلت النشر تحت هُويتها المختفية، ولم يكونوا بِدعًا؛ فقد لجأ كبار الكتاب إليها حفزًا للقراءة أو هروبًا من المواجهة أو رغبةً في الحضور المتعدد، وربما بدا اسم سيدةٍ والكاتب رجل؛ كما حدث مع الدكتور حمد المرزوقي (طفول العبدالعزيز) والأستاذ علوي طه الصافي (ليلى سلمان)، وللأستاذ أبي يعرب القشعمي كتاب راصدٌ لما اشتهر من تلك الألقاب والكُنى والأقنعة.
* * يذكر ممن تعاونوا معه في تلك الفترة: شمس الأصيل (د. شريفة سلامة أبو مريفة)، صياد الفوارس (أ. صالح بن إبراهيم العوض)، الضمير المستتر (أ. ناهد سعيد باشطح)، هدى عبدالله عبدالرحمن (أ.هدى الدغفق)، ابن جني (أ. معيض البخيتان) وآخرون وأخريات ممن سبقت الإشارة بالتفصيل لأدوارهم.
* * بقي اسمٌ مستعارٌ لم يحلَّ شفرته بعد؛ لأن صاحبته -كما يترجح لديه أنها أنثى- لم تقصد بما تبعث به النشرَ بل اطلاعه الشخصي، وكان ظرف الرسالة يأتي خِلوًا من العنوان المبعوث منه، مثلما تخلو الرسالةُ نفسها من أي إشاراتٍ لصاحبتها سوى التوقيع تحت إمضاء «ذكريات».
* * كانت «ذكريات» ذات أسلوبٍ مميزٍ وطرحٍ مركزٍ ووعيٍ بقيمة الكلمة ودلالاتها، وطابعُ ما ترسله بوحٌ ذاتيٍّ يغلب على نبراته الأسى العاثر والتحليل العابر والتعليل المبهم، مع تأكيد على خصوصيةِ ذلك البوح وعدم تهيئته للنشر الذي يمنعه كذلك جهلُ الاسم الحقيقي.
* * كتب لها في بريد «العطاءات الواعدة» محاولا دفعها للنشر وتجليةِ الاسم الحقيقي غير أنها ظلت متمسكةً بالرغبةِ الصارمة في الظل، وتأكيد أن تلك الخطرات له وحده، كما اكتفائها بدوره قارئًا؛ فهي لا تريد رأيه مؤمنةً بالاتصال ذي الاتجاه الأحادي المرسِل الذي لا ينتظر استقبالا.
* * تعددت رسائلها بخط قلمها الأنيق ذي اللون الأسود «غالبًا»، والكلمات الموجزة التي لا تتجاوزُ نصف صفحةٍ في الأعم؛ مبتدئةً باسمه مسبوقًا - إن لم ينسَ- بالأخ، ثم المباشرة بالرسالة دون سلامٍ ولا كلام شخصي، ويذكر كم تمنى أن تبلغه رسالةُ إفصاحٍ وإيضاح لكن ذلك لم يتم.
* * هل هي امرأةٌ؟ لا يجزم لكنه يرجح، هل كان لها هدف؟ باليقين: لا، لماذا لم تقل اسمها ولم سترت عنوانها ولم لم تُرد النشر لها؟ أسئلةٌ لم يجد إجابتها في حينه، ولا يتخيل أنه سيجدها بعد مضي هذه السنين الطويلة؛ وإن تمنى أن لو وصلت إليها هذه الزاوية أن تطبق على كتاباتها مبدأ العلنية بعد مرور الفترة «القانونية» التي تتيح نشرَ الوثائق السرية.
* * يجزم أن في غياهب ملفاته وأوراقه بعضًا من رسائلها، ويثق أن من سيفتش في منحنياتها سيجدها وسواها، لكن فوضويتها وتركيمها دون ترتيب وشحَّ وقته كذلك يمنعه من العودة إليها؛ فلعل الله يقيضُ لها من يعتني بها، وقد يجد فيها مادةً تستحق عن تلك الفترة المنسية.
* * غابت «ذكريات» فجأةً كما ظهرت فجأة، وبقيت ذاكرةُ بوحها تدفع بالاستفهامات في وسطٍ مجتمعي لم تُتح له حينها وسائط التقنية التي أذنت بالقفز على القيود والسدود؛ فتخاطب الرجال والنساء والكبار والصغار والعارفون والهارفون تحت مظلة الوصال الاجتماعي دون أي خوف أو تردد أو إنكار.
* * وفي الخميس التالي خطوٌ ومحوٌ من ذاكرةٍ مثقلةٍ نسيّة.
Ibrturkia@gmail.com
twitter:@abohtoon