الحديث عن الكتب الجريئة في الوطن العربي لا يتجاوز فكرة التابوهات، والقارئ الذي اطلع على كثير من هذه الكتب أو سمع بها، يعرف أن النقاش الذي تثيره كان دائما ما يدور حول الثوابت، سواء الدينية منها أو الوطنية، لقد دارعقل الإنسان العربي حول هذه الثوابت على مدى التاريخ، ولا يزال الجميع يكرر إلى اليوم بأن الثوابت خط أحمر يجب حرق من يتجاوزه، لكن الذي لم يعرفه أحد بعد، ما هي هذه الثوابت التي تعلق على مسمارها كل الثقافة العربية الاجتماعية والسياسية والدينية؟
إنه السؤال الأساس الذي تشتغل عليه المفكرة التونسية المعروفة رجاء بن سلامة في كتابها «نقد الثوابت- آراء في العنف والتمييز والمصادرة» الصادر عن دار الطليعة بطبعته الثانية عام 2011، وسلامه التي تعرفها المكتبة العربية من خلال مجموعة كتبها الفريدة من نوعها، تعرف دائما كيف تأخذ القارئ إلى الماوراء، ما وراء ما يعرفه عن نفسه، وما وراء معرفته الدينية، ما وراء أحلامه ومخاوفه ومختلف قناعته التي ورثها دون وعيه. (ولست أجرؤ على نقد هذه «الثوابت» من باب الاستفزاز أو الإثارة، بل من منطلق أخلاقي تعلمته من التحليل النفسي، ويتمثل في جعل الذات البشرية تواجه أوهامها وتعي حدودها حتى تعي ممكنات تحررها) هذا منطلق الكاتبة في مجموعة مقالاتها القصيرة التي ضمها هذا الكتاب، إن الكتابة عند سلامة بقدر ما هي اصطدام بقدر ما هي مكاشفة كاملة ومباشرة لا تتلطف عند قول الحقيقة.
تتناول المؤلفة قضية المرأة بوصفها شريحة أساسية في عرض شرائح اللاوعي العربي، فهي الشريحة التي يقاس عليها الآخر والمختلف والأقليات، إنها قراءة بن سلامة الخاصة جدا التي تعقد للقارئ المقارنة بين الشعراء المطرودين من جنة الرضى الاجتماعي وبين المصير النسائي، وذلك تحت أول المقالات بعنوان تحجيب النساء - مصادرة الشعراء.
فمن عناوين المقالات يعرف القارئ أنه يقف على عتبة جديدة تماما، فالأبواب التي تطرقها بن سلامة هي ليست فقط أبواب التاريخ وأبواب القضايا الكبرى التي تشبع بها الجميع، بل هو طرق على أبواب صغرى وخفية في عمق الإنسان العربي والمسلم، أبواب مجهولة لم يسلط عليها الضوء الكافي ولم يجرؤ أحد على طرقها ما يكفي لإيقاظ المسكوت عنه داخلها، إنها آليات التحليل النفسي التي تعيد تفسير ثقافة المجتمع بكل مكوناته المختلفة، تفسيرا نفسيا يفكك المخاوف ويفسر حجم الأوهام الراسخة في ثقافتنا باسم الثوابت. تقول بن سلامة (أعود دائما إلى اليوم لأنني لا أريد الحديث عن الماضي، ولكن لم يكن بدّ من ذلك. لم يحق لنا بعد أن نرث ما نريد، أن نختار ما نرث، بل الموروث آخذ بتلابيبنا، أو نحن آخذون بتلابيبه) لكنها ككاتبة قررت الاستقلال بأن تختار ما ترث (الإرث اختيار وقرار، واليوم اخترت أن أرث النواح الطقوسي القديم، على هذا النحو: النواح على قتلى الإرث الأبوي المستبد، على مسحوقي طاحونة العادات و»الثوابت») وهؤلاء المسحوقين ليسوا فقط النساء الأموات كضحايا لجرائم الشرف العنيفة، بل هن أيضا النساء على قيد الحياة تحت آلات الشرف الهادئة التي تؤدي إلى الموت البطيء الهادئ والاختناق بالصمت.
تسخر بن سلامة من الحالة العربية التي بدل من أن تتقدم نحو المساواة، راحت تبرع في إنتاج أسماء أخرى للا مساواة، مثل الخصوصية الثقافية وثوابت الأمة والمقدسات، وبالمقابل تم إنتاج أسماء أخرى للمساواة مثل التكامل بين الرجل والمرأة، لأن التكامل يفترض النقص في طرف قد يكمله الآخر، وهذا اختلاف جوهري تنجر عنه اختلافات في الحقوق، ما يفتح الباب لكل المفاهيم التقليدية أن تثبت نفسها من جديد فلا تغيب، فالرجل قوي والمرأة ضعيفة، الرجل عاقل والمرأة عاطفية، فما يحق له لا يصح أن يحق لها.
«نقد الثوابت» كتاب يبحث في الهوية والانتماء بوصفها من ثوابت الأمة العربية والإسلامية، ولهذا تلفت الكاتبة القارئ العربي إلى جدلية غالبا ما تخفى عليه (ما أنتمي إليه ينتمي إلي في الوقت نفسه، فأنا أغيره وأبدع وضعياته، وأكسر ثوابته إذا لزم الأمر، في حال كانت هذه الثوابت عوائق تحول دون حريتي التي لا حد لها إلا احترام الآخرين واحترام مبدأ المساواة التامة).
في هذا الكتاب لا يمكن أن تقف على سطر دون آخر، فالنقد الذي تشتغل فيه الكاتبة يفتح كل سؤال على جواب وكل جواب على سؤال، سيجد القارئ نفسه قد انتقل من الدعاة الجدد إلى حياة الشعر، ورغم أن كل مجموعة مقالات تشتغل في موضوع ما، إلى أن تنوع المواضيع يذهب جميعه في اتجاه واحد، ذلك لأن منهج التحليل الذي تتقنه بن سلامه لا يعجز عن تفسير أي فكرة يقف بها وسيجد دائما الخط الخفي الذي يربط بين كل الأفكار أو الأوهام. تسأل المؤلفة أولئك المزايدون على القضايا، الذين يتوقفون مثلا أمام مناصري حقوق الحيوان بمزايدتهم على نصرهم للقضية الفلسطينية، تسألهم عن المانع في أن يناصر الإنسان كل القضايا دون أن تقل قيمة أي قضية منها، والأهم لماذا يرفض المزايدون أن يختص البعض في قضية دون أخرى، مادام المبدأ المشترك هو الالتزام بقضايا الحرية والمساواة والديمقراطية. بن سلامة التي تبدأ كتابها بالحديث عن الرقابة والمصادرة، وأنها لم تكن تكتب لكي تصادر بل اعترضنها قبضة الرقيب أو اعترضها شبحه، كلما تعلق الأمر بنقد ما يجتمع أصحاب السلطة السياسية والدينية وحتى المثقفين النافذين على تسميته «الثوابت أو المقدسات أو الهوية»، ستنتهي فيه بالحديث عن المدافعين عن الإبداع بكل أشكاله (عليهم أن يتركوا كل التعليلات الواهية ليدافعوا عن حرية التعبير بلا قيد أو شرط سوى الدعوة إلى قتل الآخرين، ولكن عليهم أيضا أن يعلنوا الحق في اللهو والسخرية والضلال. دعني أضل، لي الحق في أن أضل لكي أعود بأدراجي إلى الحق، أو عسى أن أعود إلى حق ما).
الرياض