تذكرت وأنا أقرأ مشاعر وخواطر بعض أدبائنا الرواد عند ركوبهم لأول مرة الطائرة، تذكرت أول مرة أركبها من الرياض إلى جدة وبالعكس قبل ما يقرب من خمسين عاماً وبالذات في شهر رمضان 1374هـ وكنت أرافق والدي ليقضي شهر رمضان بمكة المكرمة إذ لم أتجاوز التاسعة من عمري، وكنت خائفاً وفرحاً في نفس الوقت، ولكن والدي - رحمه الله - كان يخفف عني لخبرته السابقة بإشغالي بالأسئلة ويطلب مني وصف ما أشاهده من جبال وأودية وقرى - إذ كنت بجوار النافذة وهو لا يبصر -.
وعادت الذاكرة أيضاً عندما كنت في الثالثة من عمري في القرية وأثناء حرب فلسطين 1367هـ -48-1949م إذ كانت القرية تنام مع غروب الشمس فكنا نتعشى بين العشاءين وفجأة نهضت والدتي وزوجة عمي ونادين أطفالهن للحاق بهن عند سماعهن صوت الطائرة، ونور خافت كالنجم يتحرك بالسماء ليختفين تحت سقف حتى لا يرمي عليهن أحد شيئاً من الطائرة. وكن يقلن لنا إن بها ساحرات (الله يكفينا شرهن).
اخترت ثلاثة من أدبائنا الأفاضل وهم يصفون شعورهم ويذكرون للقارئ الذي تنقصه المعرفة عن هذا المخترع الجديد وكيف يتحرك وكيف يطير ويختصر المسافات، أولهم: عبدالقدوس الأنصاري عندما طار من جدة إلى الرياض عام 1366هـ 1947م والثاني: عبد الكريم الجهيمان عندما طار من بيروت إلى القاهرة فباريس عام 1371هـ 1952م والثالث: عبد الله بن خميس من جدة لبيروت فدمشق عام 73-1374هـ 1955م ولنبدأ بأولهم:
1 - كتب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في مجلته (المنهل) في عدد شهر رمضان 1366هـ يوليو 1947م تحت عنوان: (مشاعر وأحاسيس في الطائرة.. من جدة إلى الرياض).. (( في المرة الأولى التي قدر لي فيها أن أمتطي صهوة الجو في طائرة عنيت في دقة بالغة، بتسجيل جميع الأحاسيس والخواطر التي شعرت بها وأنا في الجو منذ اللحظة التي وضعت قدمي فيها بمطار جدة، إلى اللحظة التي هبطت بي الطائرة في مطار الرياض.. فهذا إذن شريط من الخطرات الجوية، متلاحق الصور، متسلسل المناظر من بداية الرحلة حتى ختامها.. ولقد أرسلت فيه النفس على سجيتها فيها بمطار جدة فدونت عنها كل ما جاشت به على سجيته، وما تكلفت تنميق فكرة ولا زخرفة خيال ولا تعمقت في خاطرة ولا تعملت في أسلوب، وهكذا جاء المقال معبراً تعبيراً صادقاً عن خلجات النفس في ساعة من ساعات ابتهاجها، في رحلة شاسعة المسافات ولكنها خاطفة تراكمت فيها المشاعر والمناظر والأحاسيس، وهو أول مقال يكتبه كاتب سعودي على طائرة سعودية في جو سعودي وينشر في صحيفة سعودية على القراء، دوت محركات الطائرة السعودية بشدة قاصفة، وقيل للركاب: هيا.. وابتدأنا نصعد إلى جوف هذه (السمكة) الفضية الهائلة الطائرة، واحداً بعد واحد، ودخلت فيمن دخل فما شعرت بهزة قلق ولا باضطراب نفس، وكأنني أدخل سيارة وثيرة في رحلة ممتعة قريبة، وأحكم غلق الباب المجوف علينا، وجلس كل منا على كرسيه، وازداد دوي المحركات، وزأفت الطائرة بعجلاتها على الأرض كما تزوف القطاة حينما تهم بالطيران، ثم بدأت تنفصل رويداً رويداً عن الأرض.. لقد بدأت في الصعود، وبدأت في الطيران.. وكان أمراً عادياً لم نشعر معه برهبة ولا ارتجاج.. ثم علت وتسامت في العلو حتى انتظم استواؤها على متن الجو متجهة صوب المشرق في سرعة خاطفة وهدوء عجيب.. يا الله! نحن الآن بين طيات الجو، كطير من الطير، ولقد ظهرت لنا الجبال الشامخة الذرى أشبه شيء بالأكوام الصغيرة التي يصطنعها الأطفال من الطين).
(ها هي الطائرة تزداد ارتفاعاً وتغلغلاً في أعماق الجو كالنسر المحلق الممعن في التحليق.. وها هي الآن قد بدأت تتأرجح قليلاً ذات اليمين وذات الشمال، بفعل الرياح المتموجة في هذه الطبقة العالية من الأجواء ما يزال الصمت والهدوء يخيمان على الركاب جميعاً فكأن على رؤوسهم الطير، أنفاس تعلو وتهبط، وعيون حالمة تشخص، وأدمغة تفكر وتعتبر، تفكر في عظمة الخالق: خالق هذا الكون الرحيب، وخالق هذا المركب الطيار العجيب {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.. صدق الله العظيم).
(أود أن أنظم قصيدة رائعة في جمال وجه الفضاء الرحيب.. ولكن مع الأسف لقد سبقني الرصافي إلى ذلك حينما نظم قصيدته البارعة في الفضاء وقال في مطلعها:
جمالك يا وجه الفضاء عجيب
وصدرك يأبى الانتهاء رحيب
فقد حلّق به شيطان الشعر إلى هذه الطبقات فوصفها بأمتع الأوصاف
((أنا في الجو أشعر بنشاط خير من نشاطي على الأرض.. فهل كان هذا لأنها الرحلة الجوية الأولى؟ ولطرافة الجديد على المرء؟ أم هو تحسن حقيقي في الصحة نشأ من هذا الارتفاع عما تحتويه الأرض من أقدار وأكدار وأوخام؟!)).
((هل دخلنا منطقة المهاوي (المطبات)؟.. فها هي الطائرة الآن بعد سير (35 دقيقة) يشتد ترنحها ويزداد مقياس اضطرابها عن ذي قبل. ثم هل سمونا فوق منطقة النهود (النفود)؟ وهل أوغلنا في السير أو في الطيران على أحكم منطق حتى تغلغلنا في المنطقة النجدية الفيحاء؟ لقد تخلفت عنا هياكل الجبال بعد سيرنا أربعين دقيقة وتجللت من تحتنا الآن منطقة رملية بيضاء تنوح شبه حصير أبيض عريض الجوانب مشرق البياض نثر عليه ذرور أسود، هو هذه الأشجار وهذه الأعشاب)).
((لقد رحب الجو، وانحسرت (براقع) وجه السماء: (السحاب والضباب) فبدت زرقة السماء في غاية من الجمال والبهاء والروعة والجلال، ولقد ألفى الهواء الطلق الممراح، أوسع (مسرح) له في طبقات هذا الجو الأفيح الضاحي الرحيب فلما لا تعبث أصابعه الجبارة بهذا المركب الجريء الضئيل؟!! وقيل لنا إن الطائرة وصلت في علوها إلى (7) آلاف قدم, فهي في وجيب دائم, وفي حرب مستعرة وفي مبارزة صارخة مع العواصف المزمجرة ولقد دلتنا على نشوب هذه المعركة الجوية السلمية، هذه الاهتزازات العنيفة المتتابعة، تجاوزنا الآن منطقة الرمال، وعلونا منطقة الحرارة المكفهرة التي جثمت من قديم على صدر هذا السهل المغراق المتجرد، إبقاءً على ذاتيتها وضماناً لحيويتها, الآن، والآن فقط، بدأ الركاب يتحدثون: لقد انطلقت ألسنتهم من عقال، وزالت عنهم رهبة الجو والطيران، ورأوا كل شيء عادياً ومألوفاً، واذا اعتاد الإنسان أمراً هان عليه أمره، وانزاح عن صدره كابوس الرعب والإشفاق:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
لقد شربت ماءً مثلجاً في طبقات الجو العالية وعلى ارتفاع نحو 8000 قدم عن سطح الأرض التي ولدت بها وترعرعت فيها وكبرت هذه حقيقة بسيطة ولكنها عميقة الشاعرية، ولذلك ها أنا أسجلها في اللحظة والتو)).
{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.. وهذه الطائرة من جملة خلقه تعالى، الذي لم نكن نتقنه في سالف القرون وأن همهم بتخيله شعراؤنا الأوائل فقال أحدهم ساهماً حالماً:
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي
فقلت ومثلي بالبكاء جدير:
أسرب القطا! هل من يعير جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير
((وإن همّ باستنباطه أحدهم: ((العباس بن فرناس)) فضاعف جهوده أوضاع وجوده أدراج الرياح لأن لكل زمان فعالاً ولكل جيل مجالاً مقدراً محدوداً لا يتخطاه وإن حاول كل المحاولات نحن الآن فوق سبخة من سباخ الجزيرة وإنها لا تبدو في رأي (الطائر) كصحن مفلطح ناصع مدهون، أو كطست من نحاس موه بالقصدير، وها هو خط السيارات يقابلنا أيضاً لنقطعه أيضاً بسرعة هائلة.. بين كل فترة وأخرى نقابل هذا الخط المتثني ونقطعه قطعاً جوياً.. مرة بالطول وأخرى العرض.. وإذا فاتنا خطوط الطيران هنا توازي في أغلب الأحيان خط السيارات.. وها هو خط السيارات وقد هرب من تحتنا يتثنى في هروبه تثني الأفعوان المغير، ضارباً بجرانه في الصحراء البلقاء الممتزجة الحرار السود.. ها هو هارباً يعدو نحو الشمال عدو الظليم رآي القانص، وذلك لكي يجد لنفسه منفذاً يسير فيه سالماً ومتنائياً عن هذا السبع الكاشر الأنياب المفترس الغرثان: (منطقة النفود) وتقولوا سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كنا له مقرنين. ها أنا الآن أشاهد جناحي الطائرة الممتدين في الفضاء امتداد ذراعي جبار مارد، أشاهدهما يعلوان ويهبطان في حركة سريعة هادئة، وكأنهما كفتا ميزان الطائرة فيعلو جانب منها بعلو أحدهما، ويهبط منها جانب بهبوط الآخر، فهي إذن في هبوط وارتفاع بين هذه المهاوي (المطبات) الأثيرية المتحجبة عن الأبصار، وإنها لمهاوٍ عنيفة الوقع ولكنها خفيفة التأثير إذا قارناها بمهاوي السيارات في طرق غير منظمة. تلك المهاوي التي تكاد تخلع نياط القلوب.. وهذا (بحر أبيض متوسط) من نفود يقع بين (بحرين أسودين) من نفود يكتنفانه من هنا وهناك)).
الرياض