لا أذكر متى تعرفت على العميد الفنان طارق عبد الحكيم.. وهو ابن الطائف، لأن فارق السن فيما بيننا وعمله في الرياض فترة طويلة، جعلني أتعرف عليه على كبر من كلينا، ولكنني كنت أسمعه منذ كنت صبياً وهو يغني للإذاعة «يا ريم وادي ثقيف» وغيرها من أغانيه التي تهز الوجدان وتداعب الأحاسيس.. ولاسيما لمن نشأ أو عاش في الطائف مثلي.
وفي جدة كانت لنا لقاءات قليلة لكنها ثرية، وفي الهدا وهي ضاحية جبلية جميلة بالطائف حضرنا من جدة بدعوة من رجل الأعمال: محمد عثمان المعلم وكان معنا المذيع بصوت العرب «فرج أبو الفرج» وتغدينا» سوية (الشعبنة) وقضينا وقتاً ممتعاً مع الفنان الكبير يطربنا بعوده وصوته وكان الزمن في شعبان عام 1403هـ-1982م.
وفي منزل رجل الأعمال : عبد المقصود خوجة بجدة التقيت به عدة مرات وكان لطيفاً ومتواضعاً ومتألقاً دائماً، وقد ألقيت في حفل تكريمه بمنزل الخوجة قصيدة شعرية للترحيب به نالت الاستحسان، وكان قد انتخب عميداً للمجمع الموسيقى العربي التابع لجامعة الدول العربية تقديراً لمكانته وتاريخه الطويل في الفن.. وقد كتبها فيما بعد على ورقة كبيرة في إطار وعلقها في متحفه بجدة.
ودعوته مرة للعشاء مع مجموعة من الكتاب والأصدقاء في إحدى الاستراحات على شاطئ أبحر وقضينا ليلة جميلة إلا أنه لم يحضر العود ولم يغني تلك الليلة؟!
بعد ذلك التقيت به عدة مرات في الطائف وجدة، وكنت أزوره بانتظام في متحفه بجدة ونخرج للعشاء في المطاعم داخل أو خارج جدة قبل أن ألمس ما كدّر صفو علاقتي به من أحد جلسائه.
والفنان طارق ولد في منطقة بساتين جميلة تسمى المثناة من ضواحي الطائف القريبة على وادي وج، وفيها عين عذبة جارية ووالده كما قال لي من عائلة السعدون العراقية/ الهاشمية الأصل وكان جندياً في جيش الشريف بالحجاز وعندما دخل السعوديون للطائف عام 1343هـ - 1924م اختفى فجأة بعد أن سلب حلي امرأته (أم طارق) وكل ما في البيت ولم يروه بعدها؟! ذكر لي ذلك بنفسه.
وقد التحق طارق بالجيش السعودي وهو فتى وظهرت مواهبه الفنية في الغناء والتلحين وكان الطائف - وقتها - مصيف المملكة ويعج بالفنانين والشعراء وكتاب الأغنية الذين يأتون إليه في فصل الصيف، كما كانت الحكومة والأمراء والأغنياء ترتاده، مما خلق فرصاً لظهور فنانين اشتهروا فيما بعد كطارق وطلال ومداح وعبد الله محمد وعبدالله مرشدي وعبدالله رشاد وغيرهم.
وقد شجعه الأمير منصور بن عبد العزيز وزير الدفاع وقتذاك - كما قال لي على دراسة الموسيقى وبعثه لمصر، فدرس هناك النوتة وموسيقى الجيش والآلات النحاسية أربع سنوات عاد بعدها إلى عمله عام 1953م أو ما بعده وأسس مدرسة لموسيقى الجيش كما انطلق في مجال الغناء والتلحين فاشتهر شهرة كبيرة وأصبح عميد وعمدة الفنانين السعوديين قرابة نصف قرن.
وبعد تقاعده من الجيش برتبة (عميد) عمل في الرياض برعاية الشباب فساهم في تجميع وتوثيق معظم التراث الفني والشعبي في أنحاء المملكة كما انتخب فيما بعد رئيساً لمجمع الموسيقى العربية بالقاهرة وعضواً في جمعية الثقافة والفنون بالرياض. إن طارق عبد الحكيم عبد الكريم السعدون هو قمة من قمم الطرب والغناء والتلحين وقامة فنية عملاقه في بلادنا، ورائد من رواد فن الموسيقى فيها، تتلمذ على يديه خلق كثير ساهموا في الارتقاء بالفن والأغنية السعودية حتى فرضت وجودها في العالم العربي كله.
وقد زرته مراراً وجالسته في السنوات الأخيرة في متحفه المليء بالتسجيلات القديمة وحكاية ذكرياته الكثيرة عن الفن والفنانين والطرب والمطربين!.
ثم بعد ذلك ذهب إلى مصر لفترة من الوقت بعد أن أغلق متحفه أو باعه وانفض سامره، وتكالبت عليه الأمراض، وعاد إلى جدة أخيراً.. ليقضي ماتبقى له من عمر في وطنه وبين محبيه، ويذهب للطائف احيانا، فيتذكر طفولته وصباه بين شهار والمثناة، ويستريح أحيانا في استراحته على طريق الشفا، ويلتقي بالأصدقاء القدامى والمحبين الكثر هناك.
وقد مات أخيرا ودفن مأسوفا عليه في مصر بعد أن تخطى التسعين، رحمه الله تعالى.
جدة