الأزهار في كل الفصول..
طرحت قليلا من التساؤلات: هل انتهى عصر العلوم الإنسانية لحساب المعطى التكنولوجي؟ هل سيطرت الآلة على مجريات الحياة فتخلى لها الإنسان عن مواقعه؟ هل جن بالسرعة إيقاع الزمن فضاقت مساحات الفراغ الخلاقة أمام رغبة البحث والتأمل ؟. ما تزال هناك عشرات الأسئلة، من أكثرها إلحاحا وقسوة ما يتصل بسيادة وسيطرة رأس المال، بدأً من سيطرته في التعليم الخاص وتوجيه النشء إلى الانسجام مع طبيعة العصر، وانتهاءً بالإعلان التجاري في وسائل الإعلام الذي أصبح شعارا حقيقيا وعنوانا بالغ الدلالة على الحياة اليوم : أركض خلف الجديد، استهلك بسرعة وبدل، أجب عن سؤال تافه وأحصل على سيارة، إلى آخر ذلك، والخطورة في أن وسائل الإعلام - خاصة القنوات الفضائية العربية، ودون أن تدري دخلت في سباق الإسفاف للحصول على مزيد من المشاهدين لإقناع المعلن بأنها الأنسب لترويج بضاعته، وتحولت من أداة للوعي إلى وسيلة لتغييبه، وفي بعض القنوات طغت المساحات الإعلانية على المادة الأساسية.. كل شيء تمزقه العبارة: «فاصل ونعود» «ابقوا معنا» حتى الأفلام والمسلسلات والندوات..، أصبح لدينا مشاهد لا يترك الريموت من يده، وقارئ يكتفي بتقليب صفحات الجريدة والتنقل بين الإعلانات، فان كان ما يزال يتحلى ببعض الصبر طالع عناوين الصفحة الأولى والأخيرة..ووسط هذا اللهاث ظهر صاحب المنتج الثقافي مثل بائع جائل لحوح لا يلتفت إليه العابرون.. التساؤلات تتعدد وتطول وتتفرع ولسنا بصدد الحصر.
كأني أبحث في تغيرات العصر عن ذريعة يعلق على مشجبها الكسالى استنامتهم وصمتهم، وإذن فلنوجه النظر بالاتجاه الآخر، ولكي نكون منصفين علينا أن نتأمل القضية التي لم يجب عليها أحد حتى الآن إجابة شافية: هل يعدل فينا الزمن والظرف كما يشاء وعلى هواه كي نلاحقه، أم أننا نحن الذين نصوغه ونشكله وندفع به حيثما نريد؟
في ذلك الاتجاه الآخر لا نرى شيئا يدعونا إلى التفاؤل، نزعة فردية عارمة في ظلها أصبح المشروع الثقافي مشروعا فرديا وليس هما جماعيا، والتاريخ في كل الدنيا يلقي بين أيدينا بفيض من الشواهد على أن كل الاتجاهات والنزعات والحركات والتيارات شقت طريقها على صلابة وتكاتف جماعات لا يقودها فرد، في أيام الكساندر دوماس وأنوريه دي بلزاك كان أصحاب كل اتجاه أدبي يشبهون فصيلة حربية، ووصل الأمر أنهم كانوا يتزيون بلباس واحد إمعانا في الإحساس بأنهم فرسان وليسوا أصحاب مدرسة يرسون لها دعائمها، والانطباعيون في الفن بدءوا بصالون المرفوضين في عرض جماعي، والسرياليون بدءوا ببيانهم الشهير مجموعة، والمستقبليون جماعة من أربعة قالوا « نريد أن نحرر فرنسا، والأمثلة لا تنتهي.. ما الذي حول هموم الجماعة إلى هواجس الفرد ؟ أهي طبيعة الظرف والعصر أم أنانية الفرد؟
ما أهدف إليه هنا ليس أن أشير إلى من يتحمل مسئولية الإدانة، أهو الظرف والعصر وما أنتجاه من متلقين بمواصفاتهما الجديدة لا يصلحون عنصرا في مشروع ثقافي أو فكري، أم المثقفون بالاستسلام والاستنامة والتراخي، فهذا أمر من شأنه أن يقود إلى نتائج فادحة الخطأ.
هنا نحتاج إلى مراجعة دقيقة للسياق العام الذي يدخل ضمن عناصره المنتج والمستهلك معا، مثلما تدخل منظومة شاملة وكاملة تضم التعليم في كل مراحله، والتربية بكل أدواتها، والإعلام بكل وسائله، ونمط الحياة العامة الذي يشكل لدى المتلقي ذائقته وقناعاته، في السوق العامة وفي طريقة البيع والشراء ولافتات المحلات، وألعاب الأطفال، وفي سلوك الشارع، وفي التحرر من سيطرة رأس المال، وفي تنقية مظاهر العبادة من أي ادعاء، وفي علاقات النسب والمصاهرة وفي طريقة الأكل والشرب.. سياق عام تحتاج كل مفرداته إلى المراجعة والتنقية، وساعتها قد يصبح المناخ مهيئا لإنتاج ترجمات فريدة، وصياغة نظريات نقدية أصيلة، وإطلاق رؤى فلسفية راقية، وازدهار للكلمة واللون والصوت، فيما يشكل ربيعا عربيا حقيقيا، من صفاته أنه يزهر في كل الفصول.
الرياض