في بداياتي مع الشعر، كنتُ أردّد أنّ آراء من نسمّيهم (النقاد) لا تهمني أبداً، لأنهم أناس لا يجيدون القراءة إلاّ باتجاهين: قراءة القديم، وقراءة ما يصل إليهم كإهداءاتٍ من بعض الجديد (!). ومع تسارع السنين والتنامي في عمر ومستوى التجربة، أدركتُ أنني كنتُ أقولُ رأياً في غاية الأهمية، وأنّ رأيي كان على أعلى درجة من الصواب. أدركتُ ذلك كلما تصفّحتُ أرشيفي وطالعتُ متأملاً: كيف حظيتْ دواويني الشعرية بكل هذا الكم الهائل من الدراسات (النقدية) التي كتبها أولئك الكبار من (النقاد)؟!
الجوابُ كان يمدُّ لسانه في وجهي مع مطالعتي لكل دراسة كتبها ناقد: (أنتَ من أهديته ديوانك، فكتب عنه وعنك)!
وفي المقابل، أجد أن من كتبوا عن تجربتي دون معرفة شخصية أو إهداء، كانوا جميعهم من فئة الشعراء المثقفين الأدباء، الذين نستحي أن نطلق على أحدهم صفة (ناقد) فهم أكبر من ذلك بكثير. إنهم (مبدعون) والمبدع حرٌّ متحرّكٌ لا ينتظرُ شيئاً يأتي إليه ليحفزه على ارتكاب فعل الكتابة (النقدية) التي يمتهنها!
قلتُ ما قلتُ الآن تمهيداً لتحية وددت تقديمها إلى شاعر وشاعرة – أظنهما من الجيل الجديد المبدع – قرأتُ لكل منهما قصيدة واحدة هنا على صفحات (الجزيرة الثقافية) خلال الشهور القليلة الماضية، ولم أقرأ لأيٍّ منهما أو أسمع باسم أحدهما قبل ذلك أو بعده. أمّا الشاعر فهو: (محمد بن عبد الله عبد الباري) وسأبدأ به..
كانت قصيدته في العدد 351 من (الثقافية) وكان عنوانها: (توقيعات على جدار الثورة) ويا لها من توقيعات!
مجنونٌ هذا الشاعر، ومغامر، وقويٌّ لدرجةٍ مخيفة. إنه لا يحاول الابتعاد عن المباشرة والتقرّب من الرمزية طلباً للإبداع، بل هو يقلب المعادلة ويحمل المعاني بالإبداع حملاً مباشراً يسدده كصفعات شعرية لا نملك أمامها إلاّ التصفيق (!) وأظن أنّ صفعاته الشعرية تلك ستصل يوماً ما إلى مكانها الطبيعيّ، وتصبح نشيداً بمستوى (إذا الشعب يوماً أراد الحياة) للتونسيّ أبي القاسم الشابي. ولن أنقل كثيراً من قصيدة محمد عبد الباري، فبإمكان من يريد الاطلاع عليها الرجوع إلى أرشيف (الثقافية) فقط سأكتفي بمطلعها:
في البَدءِ كانَ التيهُ مائدةً
وكانَ الموتُ ماءْ
في البَدءِ ضاعتْ أمةٌ
ولدتْ شموعَ الأنبياءْ
سرقتْ من الغاباتِ صُفرتَها
ونامتْ في العراءْ.
حتى إذا الريحُ استدارتْ
سافرتْ للكبرياءْ.!
الله يا محمد. تثبتُ هنا أنّ الرمزية لا تنقص إبداعك، ثم تبدأ في صفعاتك الشعرية المباشرة، التي لا ينقصها الإبداع، بل هي الإبداع نفسه. غير أني سأتجنبُ نقلها وسأنتقل إلى الشاعرة (هيفاء الجبري) التي تختلف كلياً عن اتجاهك. فقصيدتها من النوع العاطفيّ الرومنسيّ العذب الرقيق. كانت قصيدتها منشورة في العدد 369 من (الثقافية) بعنوان (قل لي أتيت)، تقول هيفاء:
ماذا سيُحضِرُ ليَ المساءُ إذا أتى
قُل لي: «أتيتُ»، وفي يديكَ مسائي
راح الصباحُ بخُبزهِ وبمائهِ
تركَ المساءَ مُخدّرَ الأعضَاءِ
احمِلْهُ لي فلكم حَمَلتُ صبابةً
تكفيهِ قوتَ بقائه وبقائي
وتستمرُّ الشاعرة في هذه اللغة السلسة والمعاني الشفافة الراقية، وقد استوقفني بيتٌ في قصيدتها أحسبه لا يقل مستوىً عن الأبيات الشعرية التي يحفظها الناسُ جيلاً بعد جيل:
(لو لم يكُنْ قلبي بقايا منزلٍ
ما كنتُ أبحثُ فيه عن أحياءِ)
هيفاء الجبري شاعرة أبدعت في الشعر الرومنسيّ الرقيق، ونحن نحتاج في زماننا الجاف هذا إلى مثل هذه العذوبة..
ومحمد عبد الباري شاعرٌ أبدع في الشعر المقاوم الثائر، وبمثله تكون الشرارة التي تتحقق بها الإنجازات المنتظرة..
تحية إلى الشاعر والشاعرة، أقول في ختامها إلى كلّ شاعر حقيقيّ جديد وكل شاعرة حقيقية جديدة: ابعثوا بنتاجكم الشعريّ إلى (النقاد) إن كنتم ترغبون في (دراسات نقدية) فسترونهم يكتبون عنكم كتابات عميقة ومطوّلة كلها أكاديمية، ولكن لا تنتظروا أن يكتب عنكم ناقدٌ من تلقاء نفسه (!) إنّ النقاد كسالى لا يتحركون ولا يبحثون عن الشعر الحقيقي، حتى وإن لمحوه أو سمعوا به فهم بخلاء لا يشترون ديواناً إلاّ إذا كان لشاعرٍ مشهورٍ يعرفون أنهم بحاجة إليه (!) وعلى العكس من ذلك تكون آراء الشعراء. فالشعراء متحركون صادقون وسيجدونكم إن كنتم مبدعين وكانت إبداعاتكم مستمرة وتتطوّر مع كلّ قصيدة جديدة. فالشعراء فقط هم من يمنحون الشهادات لبعضهم، وهم من يوزعون الكراسيّ الخالدة بينهم، ويرتّبونها جديداً، وذلك ما ستفخرون به يوماً ما.. وسيأتي من بعد ذلك النقادُ تباعاً!
الرياض
ffnff69@hotmail.com