Culture Magazine Thursday  03/05/2012 G Issue 372
فضاءات
الخميس 12 ,جمادى الآخر 1433   العدد  372
 
درس في جماليات الموت – الحلقة الخامسة
الحزن مخلوق شعوري من الدرجة الثانية
محمد عبدالله الهويمل

 

الشاعر يستمتع بحالة الحزن، ويختلقها أحيانا ليعبر عن مفقود حقيقي، أو مفتعل.وهذا اللون من اللجوء للحزن لا يمثل أي حالة سلبية عنفوانية، بل إبداعية. وربما يلقي الشاعر الحزين أشعاره مبتسما ومبتهجا بتوظيف الحزن فنيا ليتفوق على حزين آخر، وينال تصفيقا أشد عصفا وهذا اللون من تكلف الحزن يسمى صدق فني أي افتعاله من أجل مشروع نص أدبي.

الحزن مادة شعورية يمكن استثمارها أي السيطرة عليها في سبيل مصلحة ما. فالحزن إذا مخلوق شعوري من الدرجة الثانية، ومع هذا فهو أول المعبرين عن الموت، بل الممثل الوحيد لأثر الموت في المكان أو الاحتفال الجماعي، حيث يمارس الجميع نفس الطقوس على مستوى متماثل، أو متقارب من الدرجة الشعورية تجاه الموت ما بين باك ومتباك. والنبي وجه إلى فضيلة التباكي، إذ هو افتعال فني صادق يؤدي فعلا صادقا. وكذلك قصة عمر في التباكي كانت مشاركة تأييد شعوري. فالحزن يمكن استحضاره ليؤدي دورا صادقا وضروريا للتعبير أو التخفيف عن المصاب الذي أوجعته المفاجأة.

الحزن هنا رغم أهميته مأمور يمارس دورا كيفيا لملء المسافة الواسعة بين الفاقد والمفقود بلون غير الأبيض الذي هو لون الفراغ، ليقلص الحزن هذه المسافة ويقلص ليس الشعور بالفقد بل الفقد نفسه، ويكون المفقود حاضرا داخل المسافة الجديدة التي لونها الحزن بعد الفراغ الفاجع. وتذكر المفقود دليل على نجاح الحزن في فنيته في تقليص مساحة الفقد التي بدا أن أي انفعال عاطفي سلبي أو إيجابي تجاه طرف يعني أن هذا الطرف فقد درجة من الكمال السالب أو الموجب ويأتي المدح أو الذم أو الحب.. ليتمم هذا النقص إلى الكمال، لذلك يبدع المداحون إلا في مدح الله لأن الله بلغ الكمال فلا مساحة لإكمال الناقص فكان مدح الله وصفا لا إبداع فيه.

الحزن مشاعر متوجهة إلى التعبير عن صلتنا ذوات كالمدح والهجاء ضمن صخب من المجازات يفعل فعله في صياغة حالة الفقد. والمجازات والاستعارات تسمى في البلاغة جماليات.

جماليات الحزن تحضر لإضفاء مناخ إيجابي استعاري مجازي على واقعة الموت، وما يصاحبها من فنون تحسين المقبح، وتلطيف الأزمة، كأن يوصف الكفن بالغمد وحمل النش بحمل العرش، ووضع الميت في لحده بحذر كدفن الكنز، وغيرها مما يتداوله الجماليون الشعراء لرفع الغطاء عن جماليات مضمرة داخل كيمياء الموت، وأن الموت ذاته حالة إبداعية إلهية يهدينا الله إلى طقوس الحزن وتجلياته لنكشف هذا الجمال المضمر في الفاجعة. وفي هذه الصدد استحضر الخدعة الجمالية التي لجأت إليها مجازات الشاعر أبي الحسن التهامي في رثا ولده..

جاورت أعدائي وجاور ربه.. شتان بين جواره وجواري.

إذ إن إقحام الشاعر نفسه للتنويه عن فاجعة مجاورته لأعدائه لم يكن لها مساحة شعورية إلا للتخفف الجمالي، إذ هو أمام فاجعتين رحيل ولده ومجاورة أعدائه، وربما لم يكن له أعداء يستحقون الاستحضار في هذا المقام الحزين، ولكن الخدعة الجمالية للحزن عززت هذه المعادلة الماكرة، وأن الحزن مركب وأن عنصريه يتدافعان في سبيل تحفيف الألم بالتضييق على المساحة الوسطى في طرفي حزن، كل منهما يحاول أن يتجاوز الآخر في الفاجعة، رغم أن أحدهما ليس حقيقيا بالضرورة لكنه لعب دورا حقيقا نافذا في المركب على نحو جمالي فاعل ليلعب الحزن نفسه دورا إبداعيا في احتواء الموت وتكثيف حالة الطمأنينة في مادته.

الحزن مادة مرنة تقع ضمن إبداعات الإنسان، وليست مشروطة بالموت، بل الفقد على عمومه، وافتعاله دليل على أنه حالة ممتعة، ومصدر إلهامي لإنجاز جديد في فن أو فكر، وقد يتحدد مجد مبدع أو إنسان في حالة حزن.

الحزن مرحلة شعورية منفكة عما قبلها من فاجعة أو قلق، ولا تعبر بالضرورة عن الخوف، بل الأسف على شيء، وفي الآية{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} لا تشي بأي اختلاط للحزن مع الخوف لأن المقام والسياق والشخوص تعكس غياب الخوف المرتبط بالشك بالنجاح.

الحزن حالة طبيعية كأي حالة ضرورية تشبع حاجة شعورية أشبهه بالغذاء، فلا بد للإنسان من أكل وشرب وحزن حتى تكتمل إنسانيته، وتعبر عن وجوده المفصّل، وتديره حالة جمالية ظاهرة أو باطنه تأخذ مداها في المستويات الشعورية عن طريق لذة شفافة لا يصنفها الوعي بالضرورة على أنها لذة، إنما حيز شعوري غير مفهوم إلا بتعريف عامي بمعادلة دارجة (انأ أفقد إذا أنا حزين ).

الفقد يعطي معنى النقصان الذي قد لا يكون مزعجا في حد ذاته، إذ النقصان والفقد الإيجابي يلعبان دورا لا واعيا في تفسير الفقد والنقصان كنقصان الوزن وساعات العمل وفقد همّ وعبء. فكلها تعطي الفقد بعدا يزاحم المفهوم الكلي للفقد، ويتماس مع الحالة الإبداعية للحزن من خلال مجازاته اللغوية، وإكسيره العاطفي الذي يحول المادة إلى الضد على نحو ماكر، ودون وعي مباشر من الحزن والحزين. وكثيرا ما يتمظهر هذا في رثائيات الشعراء.

الحزن اعتداء الشعوري على العقلي في تفسير حالة الفقد والموت. فالعقل اعترف مبكرا بالفقد والنهاية اعتراف رياضي بحت بحساب منطقي سهل، وأدرج هذا الميت ضمن الصفر والرقم المهمل الذي خرج عن المتن والهامش الرياضي والرقمي.

العاطفة لا تتعامل بالحسابات الرقمية، سيما حالة الانفعال. فالموت عاطفيا ظاهرة كيفية حادة، تعطل من الرصد الطبيعي للمشهد من حيث الحركة الدرامية البحتة، وأن ثمة نقصا رقميا ألمّ بالمتحركين داخل الدراما. لكن في حالة الاستقرار العاطفي أي بعد زمن من الفاجعة تعود العاطفة للتوظيف الحقيقي للحدث بعد زوال الحزن كملطف للانفعال ساعة تتجه إلى تفاهم وانسجام مع معطيات العقل وتحدياته لعقلنة العاطفة بشان المصيبة، وإدراجها في الماضي المهمل خارج المتن الرياضي العقلي ما يقرر أن الموت ظاهرة رقمية لا أكثر عقليا وعاطفيا في حالة الاستقرار أو البرود العاطفي إذ العقل غير متوتر بطبعه ويتعامل بواقعية مع المجالات العاطفية من حزن وحب و...ويتعايش معها فهو يصنف الموت حالة طبيعية، لا تتجاوز المنطقيات الحسابية، ويمارس دورة في عقلنة العاطفة، وما ينتج عنه من تكثيف حالة الطمأنينة تجاه الموت.

الطمأنينة كما أسلفت منتجة للعادة والراحة وللذة. وهي ظرف جمالي عززت له التلقائية العقلية في فهم الموت كظاهرة وحدث.

العقل مخلوق أدى دوره الذي كلفه الله به بتحجيم الفاجعة.وإحالتها إلى رياضية رقمية تصدقه العاطفة فيها بعد عودتها إلى حالتها الطبيعية.

إن جماليات العقل الرقمي، ومراوغات الحزن يقعان ضمن تجميلات الله للفاجعة والموت.

الرياض Hm32@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة