Culture Magazine Thursday  03/05/2012 G Issue 372
فضاءات
الخميس 12 ,جمادى الآخر 1433   العدد  372
 
المجذوبون
عبدالله العودة

 

يذكر الأدب الصوفي أن المجاذيب.. هم مجموعة من العباد الذين بلغ بهم الحال أن يرفع عنهم الستار والقلم.. وتكشف لهم المعارف فيحققون وحدة المقصود ووحدة الشهود.. قبل أن تنتأ «وحدة الوجود».

فيوحدون المقصود وهو الله في كل ما يعملون ثم يوحدون الشهود فلا يشهدون ولا يستحضرون غير الله سبحانه فيغيبوا في حالة تجلٍ روحي يختلف أكثرهم في التفاعل معها.. فربما يصل بعضهم لحالة الجذب هذه والجنون فكانوا يطوفون على الناس ويأكلون ما وقع بأيديهم، ويذكرون الله كثيراً، فكان أحد السلف يقول: أذكر الله حتى يظن الناس أنك مجنون.

وبالمقابل فإن العلم الحديث يعرف مجموعة من الفلاسفة الذي هم أشبه بالمجانين، وكان بعضهم يقول: بين الجنون والفلسفة شعرة رفيعة.. بل إن بعضهم وصل بالفعل للجنون التام مثل شوبنهاور ونيتشه حين «تنعدم» المبادئ الأخلاقية ويصبح كل شيء لا شيء.

يقولون بأن أحد أكبر علماء الرياضيات كان يكتب مسائله على أي شيء بجواره وربما لم يجد شيئاً فيكتبها على شراع عربة قريبة منه فإذا مشت العربة صار يركض وراءها ويصرخ: (مسألتي.. مسألتي) حتى يظن الناس أنه مجنون.. وهكذا الكثير من الأذكياء قد تنتابهم حالة من الإبداع المجنون تقوده إلى أن يتجاوز المألوف لغيره ولكي يقفز الشيء المستهلك للمناطق البكر.. لكنه جنون ينبغي أن لا يصل لمرحلة الصراخ في الأسواق وضرب الناس فذلك جنون متعد.. - إذا صح تقسيم الجنون إلى لازم ومتعد! يروي بعض المهتمين أن «ديكارت» على عقله الكبير وذكائه الخارق كان يراجع الأطباء لأنه يحس بأن دجاجة تتحرك في بطنه.. ويذكرون الكثير من القصص في مثل هذا السياق إلى حد أن ارتبط بعض الفلسفة بالجنون.. فصارت فلسفة الجنون مبحثاً فلسفياً يكتب فيه العديد من الفلاسفة كما كتب ميشيل فوكو «تاريخ الجنون».

وفي العصر الحديث شاشات التلفاز تعرض نماذج كثيرة لشخصيات غير سوية ولها سمات المجانين.. غير أنها بارعة وذكية بشكل خارق للعادة في جوانب أخرى.. فأحدهم يستطيع ضرب عمليات حسابية تتكون من عشرات الأرقام في في عشرات الأرقام أخرى ليعطيك النتيجة الدقيقة والصحيحة في ثانية بأسرع من الحاسبة ويحسب الجذور لأرقام خيالية بسرعة هائلة وبالمقابل فهؤلاء لا يستطيعون -مثلاً- أن يلبسوا ملابسهم بطريقة سليمة ولا يأكلون ويشربون كما يفعل الناس الأسوياء.. وهو مستوى من مرض «التوحّد» معروف.

يقولون: لو أعطي المجنون.. عقلاً.. لجنّ.. ومن الذي يجهل - مثلاً- مجنون ليلى (قيس العامري) الذي يقول: أيَا وَيْحَ مَنْ أمسَى يُخَلَّسُ عَقْلُهُ فأصبح مذموماً به كل مذهب وقالوا صحيح ما به طيف جنة ولا الهمُّ إلاَّ بِافْتِرَاءِ التَّكّذُّبِ وَلِي سَقَطَاتٌ حِينَ أُغْفِلُ ذِكْرَهَا يَغُوصُ عَلَيْها مَنْ أرَادَ تَعَقُّبي تتحدث أساطير كثيرة في العالم باختلاف ثقافاته عن مجانين لهم سمات العباقرة.. وقد يروي المجتمع من خلال تلك الأساطير والأمثال آراءه في الأشياء والأشخاص والعلوم، بل أحياناً.. والقضايا الدينية.

لا أنسى أبداً حكايا الدراويش وعقلاء المجانين كما يسميهم ابن الجوزي فهو قد أفرد لهم أبواباً خاصة في كتابه»صفة الصفوة»، بل كتاباً بهذا الاسم، ف»بهلول» - على سبيل المثال- يعترض سبيل الخلفاء ويقول: لو دام هذا الملك لغيرك لما وصل إليك فلن يدوم لك هذا الملك! فيبكي الخليفة ويقول: من هذا؟ فيقولون: بهلول المجنون.

وهؤلاء المجانين هم العقل الباطني اللا مفكر في المجتمع.. فهم يعبّرون عن الإحساس الطفولي المباشر للمجتمع.. فمجتمع التدين والمثالية ينتج مجانين أشبه بالزهاد والنسّاك.. ومجتمع المدينة.. ينتج مجانين يعملون كالآلات.. ويدورون كالسيارات.. ويصفرون كما الأشياء من حولهم.

مثل شعبي يقول (خذ فهمهم من بهمهم!) وبالفعل فبإمكانك أن تأخذ حقيقة الناس من الفئة الصغيرة سناً أو غير المدركة لأي سبب من الأسباب فالذين لا يعقلون يعبرون عن الحقائق في المجتمع بكل بساطة ومباشرة، ويحكون عن الأشياء بكل وضوح دون مساحيق تجميل ولا تزويق ولا تزييف.

الكثير من المجانين في بقاع كثيرة هم أصحاب الرأي والمشورة.. وفي أماكن أخرى قد يتبرك بهم الناس، وآخرون يقومون أمام الجمع الكبير ليخطبوا حول كل شيء،.. وربما أصبحوا وعاظاً مشهورين كما كانت هذه الظاهرة معروفة يرويها أباؤنا عن أسماء معروفة شعبياً تتهم بالجنون وتمارس الوعظ والإنكار ببساطة لأن عقل المجتمع الباطن يجهز لا شعورياً كل شخص في الداخل ليكون كذلك.. وربما أبكى هؤلاء المجذبون الناس كما كانوا يضحكونهم في أحايين أخرى.

يقولون بأن مجنوناً قام ليتحدث ويعظ فنظر حوله إلى جمهور العقلاء وقال: إذا كنت أنا أعظكم وأنا مجنون.. فمن العاقل فيكم!

أمريكا aalodah@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة