يسعد عشّاقُ الحريّة ودعاة النهوض بالقديم وتطويره، ومحبو الانتعاش والازدهار في أي مجتمع، بالجهود التنويرية التي يقوم بها رموزه البارزون وعليته الذين يشار إليهم بالبنان، أكثر من سعادتهم بجهود غيرهم من الناس رغم أهميتها؛ لأن تأثير جهود الكبار يكون كبيراً دائماً. فكيف إذا كان القائم بتلك الجهود هو أكبر كبار الوطن؟. لا شك أن السعادة ستكون أعظم وأشد.
إن إسهامات خادم الحرمين الشريفين في الحراك التنويري الجميل الذي يشهده مجتمعنا السعودي في السنوات الأخيرة كثيرة، ولا يمكن حصرها أبداً مهما قلنا وكتبنا.
لقد بدأت تظهر نتائج أعماله التقدميّة الرائدة، وبدأ الناس في بلادنا يقطفون ثمارَ أشجار النهضة الحضارية التي زرعتها يده الكريمة في بساتين الوطن، وقد اخترتُ من تلك الجهود بعض النماذج التي أسعدتني أكثر من غيرها، وهذا لا يستلزم بالضرورة أنها الأهم في نظر الجميع، ولا يستلزم أن غيرها من أعماله الكثيرة في هذا الشأن أقلّ أهمية، ولا يستلزم أيضاً وجود رابطٍ خاص بها، يربطها ببعضها دون غيرها، أو يخرج ما سواها من أعماله الجليلة الأخرى. وإليكم الأمثلة التي اخترتها مزهواً بها:
1- فتح باب حوارات الأديان والثقافات والحضارات، فقد أدرك مليكنا خطورة تصاعد ظاهرة التعصّب الأعمى على الأصعدة كافة، فعمل الكثير لإخماد نيرانها المندلعة، ونحن سعداء بما قام به في هذا الصدد، ونقف معه قلباً وقالباً؛ لأن الحوارات المنظمة -في رأيي- قادرة -إذا توسّعت وزادت- على وأدِ جميع أشكال العصبيات المقيتة، كالتعصب الديني والعرقي والقبلي والمذهبي والفكري والجنسي والرياضي والطبقي، وغيرها من العصبيات التي تغزو العالم اليوم بصورة لا مثيل لها في سالف الأزمان. إنها تنتشر اليوم في كلِّ مكان انتشار النار في الهشيم، وعلى رأس تلك الأماكن شرقنا الأوسط عامة، وخليجنا العربي خاصة، الذي يحظى بنصيب الأسد من استفحال تلك العصبيات والتعصبات للأسف الشديد.
لقد كان التعصّب وما زال الخالق الأول للصدامات السلبية الضارة بين البشر، ولذلك دعا الملك -حفظه الله- إلى الحوار الإيجابي النافع، الذي يساهم في قتل التعصب وترسيخ التسامح، وتحقيق مفهوم الأخوة الإنسانية، ونشر السلام في الأرض، وأقام لذلك المؤتمرات والمراكز والنشاطات العديدة.
2-تحويل قضايا الإعلاميين والمثقفين إلى وزارة الثقافة والإعلام، بصفتها الجهة المسؤولة عن هذا المجال، بدلاً من تحويلها للقضاء الشرعي المشغول بما هو أهم وأصعب من القضايا الجنائية والحقوقية وغيرها، وهذه خطوة مهمة جريئة، أعادت الأمور إلى نصابها، فقد صدر الأمر الملكي رقم 14947 وتاريخ 7 /11 /1430هـ، بعدم نظر المحاكم الشرعية في أيِّ قضية من القضايا ذات الطابع الإعلامي أو الثقافي، وقد شمل الأمر الصريحُ عمومَ مصادر المادة الثقافية والإعلامية، وكذلك المواد الثقافية والإعلامية الإلكترونية أيضاً، كما أكدَّ ذلك وزير العدل أكثر من مرة في أكثر من وسيلة إعلامية، بل أشار الوزير أيضاً إلى عدم نفاذ أي حكم يصدر من المحاكم الشرعية في المخالفات الصحفية، واعتبار ما صدر من أحكام لاغياً في هذه القضايا أياً كان مصدرها، بناءً على ذلك القرار الملكي الجميل.
3- ابتعاث أعداد كبيرة من الطلاب والطالبات السعوديين إلى الخارج، وقد قام برنامج الابتعاث الذي يحمل اسم خادم الحرمين بوضع استراتيجية دقيقة تبشر بنتائج عظيمة، تتضح ملامحها من خلال النقاط المقتضبة الرائعة التي وضعها مسؤولو البرنامج، حيث إنهم وضعوا هدفاً رئيساً للمشروع هو: إعداد أجيال متميزة لمجتمع معرفي مبني على اقتصاد المعرفة، ثم وضّحوا آلية تحقيق ذلك الهدف الأساسي، من خلال خطوات تفصيلية جميلة هي: أ- ابتعاث الكفاءات السعودية المؤهلة للدراسة في أفضل الجامعات في مختلف دول العالم .ب- العمل على إيجاد مستوى عالٍ من المعايير الأكاديمية والمهنية من خلال برنامج الابتعاث. ج-تبادل الخبرات العلمية والتربوية والثقافية مع مختلف دول العالم د- بناء كوادر سعودية مؤهلة ومحترفة في بيئة العمل. هـ- رفع مستوى الاحترافية المهنية وتطويرها لدى الكوادر السعودية. كما أنهم اختصروا رسالة البرنامج في سطرين جميلين، فقالوا: إعداد الموارد البشرية السعودية، وتأهيلها بشكل فاعل؛ لتصبح منافساً عالمياً في سوق العمل ومجالات البحث العلمي، ورافداً مهماً في دعم الجامعات السعودية والقطاعين الحكومي والأهلي، بالكفاءات المتميزة.
4- زيادة استقطاب واستثمار الكفاءات العالمية من ذوي العلم الواسع والمعرفة والخبرة المتميزتين، من البارزين وأصحاب العقول الفذة في الدول الأخرى، في المجالات التي لم تتمكن الجامعات من سدِّ احتياجاتها بالسعوديين، وهذه خطوة هامة أولاها الملك اهتماماً كبيراً، ليتعرف طلابنا على ما لدى الآخرين من المفيد النافع في كثير من التخصصات، وأنا من أشدِّ المؤمنين بأن التنويع في اختيار جنسيات أساتذة الجامعات مهمٌ لكسر بوتقة الانغلاق الفكري والمعرفي، الناتج عن انتماء غالب أعضاء هيئات التدريس في جامعاتنا وكلياتنا إلى أيديولوجيات منغلقة متقاربة، بل متطابقة إلى حدٍّ كبير في كثير من الأحيان!!
5- إنشاء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، التي لن يستطيع أحدٌ وصفها أو الحديث عنها بشكل أجمل وأدقّ من وصف مؤسسها، حيث أسهب الملك عبدالله في الحديث عنها في رسالته الطويلة الخالدة، التي أرسلها للعالم إبّان تدشينها، وقد اخترت منها أبرز ما جاء فيها حيث يقول أدامه الله: «ورغبة مني في إحياء ونشر فضيلة العلم العظيمة التي ميزت العالمَين العربي والإسلامي في العصور الأولى، فقد رأيت أن أؤسس جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية على ساحل البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية، وستمثل الجامعة، باعتبارها «بيتاً جديداً للحكمة»، منارة للسلام والأمل والوفاق، وستعمل لخدمة أبناء المملكة ولنفع جميع شعوب العالم، عملاً بأحكام ديننا الحنيف، حيث يبين لنا القرآن العظيم أن الله تعالى خلق بني آدم من أجل أن يتعارفوا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.
وإنني أرغب أن تصبح هذه الجامعة الجديدة واحدة من مؤسسات العالم الكبرى للبحوث؛ وأن تُعَلّم أجيال المستقبل من العلماء والمهندسين والتقنيين وتدربهم، وأن تعزز المشاركة والتعاون مع غيرها من جامعات البحوث الكبرى ومؤسسات القطاع الخاص على أساس الجدارة والتميز.وسيكون من الأهداف الأساسية للجامعة تنمية وحماية حرية البحث والفكر والحوار في مجال العمل العلمي.
إن هدفنا هو إيجاد نموذج دائم للتعليم الراقي والبحث العلمي المتقدم، كما ستكون الجامعة مكاناً يلقى فيه الزوار من داخل المملكة وخارجها كلَّ ترحيب. ونحن إذ نوفر أساساً متيناً لكل جوانب الحياة والعمل في الجامعة، فإننا نهدف بذلك إلى ضمان نجاحها في تعزيز التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية لشعب المملكة ولشعوب العالم كله». انتهى المنتقى من رسالته.
6- إنشاء مدينة الملك عبدالله في رابغ، حيث بلغت تكلفة مشروع المدينة (300 مليار ريال سعودي)، وتنفذه شركة إعمار المدينة الاقتصادية، وتنقسم المدينة إلى ستة أقسام، يحقق كلُّ قسم منها هدفاً من أهداف بناء المدينة، وهي: الميناء، والمجمع الصناعي، والجزيرة المالية، والمرافق الشاطئية، والأحياء السكنية التي تضم مركز المدينة المشتمل على منشآت وتسهيلات متعددة ومراكز تجارية منوعة؛ بالإضافة إلى الكورنيش البحري، والمنطقة التعليمية التي تحتوي على مدارس لجميع المراحل التعليمية، إلى جانب الكليات والمعاهد ومراكز الأبحاث المجهزة بالكامل على أعلى طراز.
7- تعزيز مكانة المرأة ودورها الاجتماعي في كثير من المجالات، وسأكتفي هنا بإيراد مثالين حديثين، يغنيان عن كثير من الكلام؛ لأن الأول كان حدثاً كبيراً فرح به جميع أنصار إنصاف المرأة وتحريرها من واقعها المؤلم في بلادنا، فقد أعلن الملك في يوم الأحد المشهود الموافق 25 سبتمبر 2011م، أعلن أنه أصبح بمقدور المرأة السعودية أن تكون عضواً في مجلس الشورى في بلادها، وأن تترشح للانتخابات البلدية، ولها الحق في المشاركة في الترشيح أيضاً، حيث قال ما هذا نصّه: «قررنا مشاركة المرأة في مجلس الشورى عضواً، اعتباراً من الدورة القادمة وفق الضوابط الشرعية، ويحق لها أن ترشّح نفسها لعضوية المجالس البلدية من الدورة القادمة، ولها الحق في المشاركة في ترشيح المرشحين» في إشارة إلى حق الاقتراع. أما المثال الثاني، فهو تعيين الأستاذة نورة الفايز في منصب مساعدة وزير، لتكون بذلك أول امرأة سعودية تحصل على هذا المنصب الرفيع، وما زلنا ننتظر ونترقب مزيداً من القرارات الخاصة بالمرأة، التي تلوح بوادر صدورها في الأفق، ومن أهمها السماح لها بقيادة سيارتها نظراً لحاجة كثير من نساء الوطن إلى ذلك، فقد بلغت معاناتهن مع السائقين وسيارات الأجرة حدّاً لا يمكن السكوت عنه إلى الأبد.
8- رفعُ سقف حرية الثقافة والإبداع، ومن أصدق الأمثلة على ذلك ما نراه في معرض الرياض للكتاب والندوات المصاحبة له في السنوات الأخيرة، وما نراه من الفعاليات الجميلة المتنوعة في المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية، فقد ظهر جلياً في هذين الحدثين السنويين حرص حكومتنا الرشيدة على الارتقاء بمستوى الثقافة والفكر والمعرفة والإبداع، وتحرير هذا المجال من كثير من القيود الرجعية التي كانت مسيطرة عليه طيلة عقود طويلة سابقة، كالتضييق على المؤلفين مثلاً، ومنع الكثير من الكتب من التداول في المعرض، وكالمبالغة في منع الموسيقى في كثير من الاحتفالات والمهرجانات الثقافية قديماً، بصورة متكلفة ممجوجة. إن التحسّن في ذلك واضحٌ جداً، ويدركه -بكل سهولة- من حضر معارض الكتب وغيرها من المناشط الثقافية في السنوات الأخيرة، لاسيما إذا قارنها بواقعها قبل تولي هذا الملك الإنسان مقاليد الحكم.
9- تقييد الفتوى وتقنينها، بعد أن كانت الفوضى العارمة مسيطرة على ساحة الإفتاء السعودية، فقد أصدر خادم الحرمين أمراً ملكياً مفصّلاً في ذلك، برقم 13876-ب وتاريخ 2-/9-1431هـ، اشتمل على نقاط طويلة رائعة، أنصح المهتمين بالرجوع لها والاطلاع عليها كاملة، ولعل من أبرز ما جاء في ذلك الأمر: قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء ومن يأذن لهم الملك بذلك فقط.. وأحبُّ أن أشير هنا إلى أن بعض سفهاء الوعاظ ما زالوا يعبثون بالفتاوى دون رادع ولا زاجر، متجاهلين هذا القرار الملكي الحكيم الصريح، فأتمنى أن يُضرب على أيديهم بعصيّ من حديد، فقد استفحل خطرهم كثيراً، وأصبح الدين لعبة بأيديهم، وكثر ضحاياهم من العوّام والجهلة، الذين عاثوا في الأرض فساداً بسبب تلك الفتاوى الفوضوية العجيبة.
إن هذه الأمثلة الموجزة التي ذكرتها ليست إلا غيضاً من فيضه الغزير.. ليست إلا قطرة في بحرٍ خضمٍ زاخرٍ بجهود خادم الحرمين الحداثوية النهضوية، التي لو أردتُ الاسترسال في بيانها لاحتجتُ إلى صفحات عددٍ كاملٍ من هذه الجريدة.
لن أقول: إن مليكنا المفدّى مليكٌ تنويريٌّ تقدميّ فحسب، بل لابد أن أقول: إن التنوير هو الملك عبدالله، والملك عبدالله هو شعلة النور التي أضاءت ما بين السماء والأرض في هذا الوطن العزيز على قلوبنا جميعاً.
أدامك الله سيدي ذخراً للوطن والمواطن، وأدام نورَ أعمالك الحضارية الذي سيبقى ساطعاً في أركان هذا الوطن العظيم أبد الآبدين.
الرياض