يمكن معاينة انقسامات النظرية الأدبية وتحولاتها وتطورها وتعارضاتها، من جهة السببيَّة التي تعود إلى العلاقة بالواقع الاجتماعي، وإلى الوجود في التاريخ فلا أحد من هذه الوجهة خارج العالم أي خارج الصراع والنزاع بين البشر على المكان، ولا يمكن أن نجد نظرية بريئة. ومن جهة ثانية يمكننا أن نعاين النظرية من وجهة كيفيتها وعلاقاتها في ذاتها التي تحيل تطورها وانقسامها إلى انقطاعات إبستمولوجية. فالنظرية تتبادل التشكُّل والانبناء مع الوجود الواقعي في تحولاته الاجتماعية التاريخية، بحيث تغدو النظرية جزءاً من الفعل التاريخي وهامشاً عليه أو انعكاساً له. ولهذا فإن الفعل النظري بالضرورة مبنى قيم، حتى وإن بدا للوهلة الأولى في بعض وجهاته الوصفية الشكلانية بلا أحكام تذوقية، وبلا وجهة تقويمية.
وهكذا يمكن التعرف في النظرية الأدبية على بنية الواقع الاجتماعي الذي ينتجها وما يحكمه من قيم، وعلى طبيعة التجاوب مع لحظتها التاريخية والترسبات الفلسفية والعلمية فيها. ففي أقدم نظرية وهي نظرية المحاكاة لدى أفلاطون وأرسطو، والتوارث لها في الكلاسيكية الجديدة، دلالة على مجتمعات العبودية والإقطاع التي تهيمن فيها طبقة من أقليّة أرستقراطية. ومن ثم كان اهتمام النظرية هنا متَّجهاً إلى ما يحدثه المُنتَج الأدبي من أثر أخلاقي على المتلقي على نحو ما نعرف من تحفُّظ أفلاطون الأخلاقي دائماً، وشرط أرسطو على المنتجات الأدبية الإفضاء إلى التوازن الانفعالي ومن ثم الأخلاقي والسلوكي (التطهير). وقد اتصل ذلك باكتناز النظرية بمبادئ صورية أبدية للشعر والفن خارج المكان والزمان، بما يعني إنكارها للتغير وهو إنكار يتوازى فيه التغير الاجتماعي والتغير الفني بلا فرق. فهي - إذن- تتجاوب مع الفكر السائد في تثبيت الوضع القائم في العلاقات الاجتماعية وتبرِّره.
ولم تستحل النظرية الأدبية -من المنظور الواقعي- إلى وجهة أخرى إلا بحدوث تحولات في العلاقات الاجتماعية نتيجة لبروز الطبقة الوسطى بعد قيام الثورة الفرنسية ونهوض الرأسمالية. فالفردية التي تجلّى عنها الوضع الاجتماعي الحادث لم تعد تجد في المحاكاة تفسيراً مقنعاً وممتعاً للأدب، فكانت التعبيرية معطى نظرياً يتجاوب معها ويعكس حضورها الاجتماعي وتأثيرها. ولهذا استدارت النظرية هنا على فردية الأديب واستمدت مقوماتها التفسيرية من أخص ما يدل على الفردية وهما العاطفة والخيال. وكانت الرومانسية بشعريتها الطاغية وتدفقها العاطفي المجال الحيوي الذي تشخَّصت فيه نظرية التعبير من حيث هي تفسير للأدب في مسافة العلاقة بشخصية مؤلِّفه وفرديته. وهي مسافة تحطَّمت فيها القيود والقواعد الكلاسيكية التي بدت لقرون وكأنها إلى الأبد، وفتحت الباب لتلاحق المذاهب والتيارات والاتجاهات الأدبية وتعدّدها، والأهم من ذلك هو التأسيس لمنطق تاريخي ونقدي ومقارن في المقاربة للأدب، بإحلال المؤلف في عصره والنفاذ إلى روحه الذي يستدعي البحث عن أصالة عبقريته في علاقتها بالمجتمع وفي علاقتها بشخصيته وفي علاقتها بإنتاج غيره.
وعلى عكس نظرية التعبير في صلتها بالفلسفة المثالية جاءت نظرية الانعكاس تعبيراً عن الفلسفة الواقعية التي يتقدم فيها الوجود الاجتماعي على الوعي الذي يصبح انعكاساً له مثلما يعكس الفكر الواقع. وقد أصبحت هذه النظرية تفسيراً للأدب -على أساس فلسفي ونظري في المادية الجدلية التاريخية لدى كارل ماركس- من وجهة المدرسة الواقعية الاشتراكية، بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا وقيام القطب الاشتراكي في العالم في مقابل الرأسمالية. ولهذا فهي مبنى إيديولوجي وقيمي يؤسس المنظور الأدبي دوماً على بعد طبقي اجتماعي، وهذا البعد لا ينفك عن إحدى صفتين، أولاهما: الامتثال للواقع الاجتماعي السائد والدعوة للتصالح معه، وهذا هو الوعي الأدبي الزائف في المنظور القيمي لهذه النظرية. وثانيهما: الطموح إلى هدم العلاقات القائمة لبناء مجتمع أفضل، وهذا هو ما يسميه لوكاتش «الانعكاس الواقعي» بالمدلول المقابل للزائف.
وكانت نظرية الخلق التي تقول باستقلال الأدب عن أي نفعية وأنه غاية في ذاته وقيمته في شكله، المقدِّمة التي تنامت منها الشكلانية الروسية والنقد الجديد والبنيوية، في مدار الحاجة إلى تفسير للخصائص الطليعية في الأدب الحديث التي بدأت تشيع في أوروبا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتتعاظم منذ أوائل القرن العشرين. وذلك امتداد لنظرية التعبير من وجه، ورفض لها من وجه آخر؛ فالنظرية هكذا، من وجهة الواقعية، تؤشّر على الإعلاء من شأن الفردية والذاتية في الأساس الاجتماعي، وهو الأساس الذي نشأ بصعود الطبقة الوسطى وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، التي كانت نظرية التعبير انعكاسها على مستوى الفكر كما كانت الرومانسية انعكاسها على المستوى الإبداعي، فتقدمت العاطفة على العقل، والموهبة على الصنعة، والتلقائية على القواعد . لكن الطبقة الوسطى أخذت تفقد دورها الثوري في أوروبا في الفترة المشار إليها وبدأت تتحول إلى موقع المحافظة، وتصدَّر التقدم العلمي والصناعي ساحة الأحداث، وبدأ شعور الفردية والذاتية بالأزمة الروحية ينعكس في الإنتاج الإبداعي. وفي هذا الصدد يقول هوجو فرديريتش عن تركيز بودلير على الشكل: «فليست الطاقات والقوى الشكلية مجرد حلية أو تقليد، ولكنها وسيلة الإنقاذ التي يلجأ إليها الشاعر للنجاة من الأزمات الروحية التي تحاصره بالقلق والعذاب. فلمّا جاء القرن التاسع عشر وتحول العذاب الخصب إلى صحراء مجدبة بالوحشة والضياع والعدم، أصبح الشكل هو المنقذ الوحيد». حتى وصلنا في أقصى تجليات الشكلانية في البنيوية إلى خروج النظرية من دائرة الفعل التاريخي.
وقد كان التخلي عن البنيوية وفتح بوابة ما بعدها مسبَّباً عن واقع تاريخي أخذ شكلاً مباشراً في الرفض للبنيوية، وذلك في مظاهرات الطلاب عام 1968م في فرنسا ثم في ألمانيا. ويعرض إدورد سعيد لتضافر جملة من الأحداث والتغيُّرات التي سبّبت لما بعد البنيوية، منذ نهاية الستينات من القرن الماضي، في قوله: «تزامنت نهاية الحرب الباردة مع عدد من التغيّرات الأخرى التي عكستها الحروب الثقافية خلال الثمانينات والتسعينات: النضالات ضد الحرب في فيتنام وضد التمييز العنصري داخلياً، وانبثاق وتضافر مجموعة مُبهرة من الأصوات الشِّقاقية -تؤسِّس على إعادة اكتشاف أصوات شقاقية أقدم عهداً- كما سُمِع عنها وشوهدت عبر أرجاء العالم أجمع في قطاعات تاريخية وأنثربولوجية ونسوية وأقلّوية وغيرها من القطاعات المهمّشة والمعارضة في الفروع الرئيسية للإنسانيات والعلوم الاجتماعية. وقد أسهم هذا كله في التغير الزلزالي البطيء في المنظور الإنسانوي الذي هو منظورنا اليوم، مطلع القرن الواحد والعشرين».
أما التفسير البنيوي لتطور النظرية وانقسامها، فإنه لا يلتفت إلى تفسير الانتقال من مرحلة إلى أخرى، أو من وجهة نظرية إلى غيرها، ولا يفسِّر كيفية الانتقال والعوامل التي أدّت إلى التغيّر والتحول النظري. فالموقف البنيوي يفصل بين كل نظرية وأخرى مثلما يفصل بين النظرية وبين التاريخ والذات الإنسانية، وينصرف إلى اكتشاف الصور البنيوية لكل نظرية مميِّزاً لكل مرحلة دونما حساب للتغيرات التي تطرأ نتيجة لتفاعل العقل مع الأحداث وحركته عبر الزمن. فتغدو النظريات مجموعات من البناءات المغلقة إغلاقاً محكماً.
وتجد البنيوية أساس هذا الفصل في مبدأ القطيعة الإبستمولوجية الشهير لدى جاستون باشلار الذي فسَّر بها تطور العلوم وتقدمها. ومعنى الإبستمولوجيا هنا الدراسة النقدية للمبادئ أو الفرضيات العلمية بهدف بيان أصلها المنطقي وقيمتها. ولهذا فإن القطيعة الإبستمولوجية لدى باشلار هي صفة للقفزات النوعية في تطور العلوم ومثالها الانتقال من فيزياء إسحاق نيوتن إلى النظرية النسبية عند أنشتاين. وتأتي هذه القطيعة لدى باشلار بالجدل مع العوائق الإبستمولوجية، فهي قطيعة بين المعرفة العلمية والمعرفة العامة، وقطيعة بين النظريات العلمية الجديد منها والقديم. وبذلك ينفي باشلار أي استمراية في التاريخ العلمي، لأن الاستمرارية تعني الشمولية وهي ما يجعل كل علم جديد عودة إلى أصول قديمة. والمثال الذي يضربه باشلار لانقطاع الاستمرارية بين الحديث والقديم، والعامي والعلمي الفرق بين المصباح الكهربائي والمصباح العادي، فليست هناك علاقة تكوينية بينهما على الرغم من تماثلهما في هدف الإضاءة، وهكذا يصبح التفكير في المصباح الكهربائي بوصفه عملاً تقنياً علمياً منقطعاً عن المصباح العادي، لأنه لا يقوم على طريقة التفكير فيه، بل على طريقة مختلفة تماماً.
لكن المثال الذي يفسِّر تطور النظريات بنيوياً بناء على مفهوم القطيعة والانفصال عند باشلار هو ما يطرحه ميشيل فوكو في كتابه «الكلمات والأشياء» من وصف للمراحل النظرية في أربع مراحل من تاريخ أوروبا: الأولى تمتد حتى نهاية القرن السادس عشر ويرى فيها فوكو بناء أساسياً واحداً يسود جميع المجالات، وهو ما يصفه بنظام التشابه. والثانية في العصر الكلاسيكي ق17، 18 ويتمثل فيها النظام والترتيب، والمرحلة الثالثة هي القرن التاسع عشر ويصفه بأنه القرن الذي اخترع التاريخ واستعاض به عن النظام. أما العصر الحاضر فقد قسم فوكو المجال المعرفي فيه إلى أبعاد ثلاثة: الأول للعلوم الرياضية والفيزياء، والثاني لما سماه بالعلوم التجريبية وهي الاقتصاد والأحياء واللسانيات والثالث للفلسفة، وجعل العلوم الإنسانية تبحث عن مكان لها بين هذه المجالات الثلاثة، فهي تحاول البحث عن يقين الرياضيات، وتحاول تطبيق الأسلوب التجريبي، وتستسلم في جهة ثالثة للتأمل والفكر.
ويأخذ هذا التفسير البنيوي مدى أعمق في تأكيد الانفصال والقطيعة بين النظريات لدى توماس كون في كتابه «بنية الثورات العلمية». فقد نفى أن تكون العلوم عملية تحصيل تراكمي للمعارف، وقر ّر أنها تنمو من خلال ثورات عنيفة فكرياً. فمعظم العلماء تقليديون يألفون ما تعلموه، ولهذا فإن الجديد لا يولَد إلا بمشاق ومقاومة وتكون النتيجة ثورة علمية تضع نظرة مفهومية كونية محل نظرة أخرى. وإلى توماس كون يعود ابتكار مصطلح (البارادايم) أي (النموذج النظري) الذي عرَّفه بأنه مجموع المعتقدات التي يتشارك بها علماء ويضعونها موضع الاتفاق بينهم على فهم المسائل الفكرية، وبذلك يصبح البارادايم هو ما يوجِّه الأبحاث التي تجريها الجماعات العلمية. أما نسق تطور النماذج النظرية فيتم بالانتقال من نموذج نظري إلى آخر عبر المسار الثوري.
وإذا نحن طبقنا فكرة النموذج النظري لكون أو مدلول النظام الذي تشكِّله البنية النظرية عند فوكو على طروحات النظرية الأدبية فسنجد كل أطروحة نظرية منفصلة عن غيرها لأنها تحيل على علاقات ذاتية في داخلها بمعزل عن سواها. فأرسطو نموذج نظري منفصل عن أفلاطون على الرغم من التقائهما على المحاكاة بوصفها مفهوماً يفسر الفن، والقطيعة بينهما هي قطيعة على مستوى التكوين والعلاقات التي تؤلف أطروحة أرسطو بما يفصلها عن أطروحة أفلاطون. وسيكون مفهوم الخيال عند كوليردج قطيعة مع النظرية الكلاسيكية تماماً مثلما تغدو نظرية التعبير بنية مقطوعة الصلة عن المحاكاة. وتتوالى الطروحات النظرية بما يشبه الثورات التي تطمس وعياً وتشرق بوعي جديد، وتستبدل مفاهيم بأخرى. وهي في هذا تحيل على القطيعة لا على الاستمرار وعلى القفزات في طريق ممتد لا على الخطوات في دائة مفرغة. ولن ننسى ما أحدثه في هذا الصدد كل من فرويد وماركس وسوسير من إطلاق فرضيات نظرية عن التركيب النفسي للكائن البشري، وحركة التاريخ المادية، ونظام اللغة وعلاقاته، بحيث صنع كل منهم مدار انقلاب نظري هائل لحقبة تأسيسية في المعرفة الإنسانية والأدبية. لكن منظور التطور البنيوي للنظرية لا يقف عند هذه الأسماء مثلما لا يقف عند أي مؤلف لأنهم ليسوا أكثر من وظائف لهذا النظام الكوني الذي ينبع من الذات الجمعية للجنس البشري ذاته، ويعبِّر عن الرغبات البشرية الأساسية التي أنشأت الحضارة ذاتها.
وأتصور أنه مهما يكن من أمر فإنه لا سبيل إلى إنكار الجهد الإنساني، ولذلك يقول إدورد سعيد: «إن لب الإنجاز الإنساني يتكئ دوماً على جهد فردي وعلى ابتكار فردي من هذا اللون أو ذاك» لكنه يضيف «إن من الجنون.. الادعاء أن الكتَّاب والموسيقيين والرسامين ينتجون أعمالهم كأنما على صفحة بيضاء. إن العالم موسوم أصلاً، عميق الوسم، ليس فقط بعمل الكتَّاب والفنانين السابقين وإنما أيضاً بكمٍّ ضخم من المعلومات والخطابات تتحشّد في الوعي الفردي». فهناك -إذن- جدلية بين ظروف المجتمع وإرشيف الثقافة وبين الفرد بما يؤكد الفعل الإنساني في التاريخ، بقدر الفعل الإنساني في الوعي وإنتاج المعرفة.
الرياض