يمكننا تقسيم الثورات وفق ما قامت عليه فهناك الثورة السياسية التي قامت لإسقاط نظام سياسي وهناك الثورة الفكرية التي قامت لإسقاط نظام فكري و هناك الثورة الاقتصادية و العلمية اللتان اعتمدتا في وجودهما على إسقاط الأنظمة الاقتصادية والعلمية، حتى على مستوى الأديان فهناك الثورة الدينية التي قامت لإسقاط العقائد الشركية والكفرية.
لكن يظل السؤال هل كل ثورة تؤدي بالضرورة إلى تغيير «العقيدة الثقافية « للمجتمع الثوري؟
وهذا السؤال بدوره يُدخلنا إلى دائرتين؛ الدائرة الأولى مأزق «مفهوم الثقافة» والدائرة الثانية هي طبيعة الثورة وهدفها وخصائصها.
إن ضبط «مفهوم مستقر» للثقافة أمر غير سهل، في حين أن ضبط عناصر العقيدة الثقافية وكيفياتها و وظائفها هو أمر أقل صعوبة أو هكذا أعتقد.
تتكون العقيدة الثقافية لأي مجتمع من «مجموع» من»القيم والمفاهيم والعلاقات «فالشخصية الثقافية لأفراد المجتمع تتشكل وفق ذلك المجموع الذي هو بمثابة «الدي إن إيه» الذي يحافظ على السلالة الوراثية للمجتمع وللأمة. وتتحقق وظيفتها التوعوية على «مجموع « «الكيفيات الكائنية» أو «المنظومة الإجرائية» التي تُنتج معايير» الممارسة» و «التقويم» و»التعبير» و «التكوين» لكل عنصر من عناصر الثقافة»القيم والمفاهيم والعلاقات»، فالفرد الحامل لعقيدة ثقافية لا يكوّن قيمة مضادة لقيم العقيدة الثقافية أو يحذف قيمة من قيمها، ولا يكوّن مفهوما مضادا لمفاهيم العقيدة الثقافية أو يحذف مفهوما.
حريته المتاحة قاصرة على «عنصر العلاقات» وآليات الكائنية وهي حرية مشروطة بعدم التعارض مع منظومة قيم ومفاهيم العقيدة الثقافية للمجتمع، ومتى ما تعرض الفكر والسلوك الثقافيين لمعايير العقيدة الثقافية أصبح خارجا على تلك العقيدة ومنبوذا من مجتمعها وهو ما يدخله دائرة «الحجر الثقافي» أو «الصعلكة الثقافية».
وبالتالي ف»نحن» لا نعبر عن «عقيدتنا الثقافية» بقدر ما «نحن» «حاصل» «عقيدتنا الثقافية»، هذه هي حقيقة أهمية الثقافة و وظيفتها، إنها أشبه بحمض « الدي إن إيه» الحافظ للخصوصية الوراثية للشخصية التاريخية للمجتمع والأمة، والمقاوم لأي تزوير أو تغير وتغيير لا ترضى عنه تلك العقيدة ولا تُشرع لقبوله.
هذا لا يعني أن العقيدة الثقافية لأي مجتمع أو أي أمة غير قابلة «للهندسة الوراثية» بل هي قابلة بل وأحسب هذا القبول هو سبب «خلود العقائد الثقافية للأمم والمجتمعات» من خلال ثنائية التأثر والتأثير، ومتى ما فقدت تلك العقيدة خاصية القبول، أي حيوية التأثر والتأثير ماتت واندثرت، أو هكذا أعتقد.
أما ما أقصده بالهندسة الوراثية للعقيدة الثقافية –كقصد ابتدائي قابل للتعديل والتطوير-.
هو « إمكانية الإضافة إلى العقيدة الثقافية عبر الحذف والإبدال والإدخال والتعديل المضبوط حكما بتشريعات الذاكرة التاريخية والمدونة التراثية لتلك العقيدة ؛لتكييفها مع المقتضى النهضوي ولمشاركتها في التغيير ولتحسين إنتاجها ورفع مستوى عالميتها».
ومن نافلة القول، أن ليست كل ثقافة هي عقيدة ثقافية، فالثقافة هي جزء من العقيدة الثقافية، و هي - أقصد الثقافة - قابلة للتغيير المستمر لأنها تتعلق «بالمنظومة الإجرائية» للعقيدة الثقافية، أو «الكيفيات المرتبطة بالكائنية»، والعقيدة الثقافية مصدر الثوابت-التاريخ والمدونة التراثية- لذلك تتميز بالثبات والإضمار وتُنقل عبر صيغة الجمع لا الفرد من خلال سلطة العقل الجمعي.
في حين أن الثقافة كونها «الجانب الإجرائي أو الكيفية الكائنية» فهي تتصف بالتغيير والعلنية، وهي التي يقع عليها التغييرات الطارئة المؤقتة، وتتمثل من خلالها غالبا»الظواهر الثقافية أو المستجدات والتقنيات الثقافية»؛لأن وسيلة انتقالها غالبا الفرد كواحد أو مجموع.
أما على مستوى الدائرة الأخرى طبيعة الثورات.
تحرص الثورات على إنشاء أنظمة تُشّرع وجودها، والعقيدة الثقافية للمجتمع هي إحدى مصادر تشريع الأنظمة، ولذلك تتعامل الثورات غير الشعبية؛أي الانقلابات السياسية والفكرية والاقتصادية، بخصوصية حساسة مع العقيدة الثقافية باعتبار أنها «مصدر تشريع رسمي وشعبي»، أما في حالة الثورات الشعبية فالأمر مختلف لأن تلك الثورة الشعبية تسير طبيعيا في ضوء العقيدة الثقافية للمجتمع.
هل هذا يعني أن الثورات تُنشئ أنظمتها بعيدا عن العقيدة الثقافية للمجتمع؟.
بالطبع لا لأنها-العقيدة الثقافية-هي مصدر تشريع شعبي؛ولذلك تحرص الثورات على «إضافة ما يشّرع أنظمتها إلى قيم ومفاهيم هذه العقيدة» دون أن تجبر تلك العقيدة على تغيير جذرياتها ؛ لتضمن الثورات من خلال تلك الإضافة إلى إنتاج ثقافي «يدعم شرعية أنظمتها» و» وشعبيتها و تداوليتها» .
وتلك الهندسة الوراثية للعقيدة الثقافية عبر ما تضيفه الثورة من قيم أنظمتها ومفاهيمها وعلاقاتها لتدمجها مع قيم ومفاهيم وعلاقات العقيدة الثقافية لتضمن مشروعيتها عبر إنتاج تلك العقيدة لا تنجح إلا عبر شرطين، أولهما ؛»توفر الاتفاق والتوافق الجمعي» على مبدأ الإضافة و محلها وغايتها، و الموافقة على مبدأ الإضافة يعتمد على قرب أو بعد ذلك المبدأ من شرعية الذاكرة التاريخية للعقيدة ومدونتها التراثية.
ومحلها يعتمد على فكرتي الانتقال من دلالة إلى دلالة في مثلث دلالات قيم العقيدة ومفاهيمها وعلاقاتها، أو التوسع أو الانكماش في ذات شريحة الدلالة الواحدة .
فإذا كانت الإضافة على مستوى شرائح مثلث دلالات عناصر العقيدة الثقافية سواء بالاتساع أو الانكماش حظيت بترحيب العقيدة لها مع بقاء شرط أن لا تتعرض آليتا التوسع أو الانكماش لشرعية ذاكرتها التاريخية أو مدونتها التراثية.
أما إذا كانت الإضافة تعتمد على الانتقال عبر الدلالات فموقف العقيدة الثقافية يختلف؛ فهي تميل في هذا النوع من الإضافة إلى التوجس والحذر أكثر من الاستقبال والترحيب والتجويز كما في النوع الأول من الإضافة ؛لأن ذلك النوع من الإضافة قد يتعرض وفق توجسها إلى مشروعية ذاكرتها التاريخية ومدونتها التراثية، وقد تدخل وفق ذلك التوجس في صراع مع الأنظمة الثورية.
ويحدث الصراع بين العقيدة الثقافية للمجتمع وأنظمة الثورات لعدة أسباب؛اختيار النظام الثوري لنوع مبدأ الإضافة وفي ذلك الاختيار لا يلزم نفسه بالحرص على المحافظة على مصادر تشريع العقيدة الثقافية، إجبار النظام الثوري العقيدة الثقافية على الإضافة المخالفة لشروط العقيدة الخاصة بالاستقبال والترحيب، واستغلال النظام الثوري لتلك العقيدة للترويج لشرعيته، لا استثمارها ليُشرعن هو من خلالها، وعدم اقتناع العقيدة الثقافية بحيثيات النظام ذاته.
وحالة الصراع بين العقيدة الثقافية والأنظمة عادة ما تُنشئ في ضوء الانقلابات لا الثورات الشعبية.
وفي حالة قمع النظام الناشئ من الانقلابات تكون نتيجة ذلك الصراع في مصلحة»النظام» لكن النتيجة ليست حاصل غلبة إنما حاصل دكتاتورية، وهنا تحتال العقيدة الثقافية بالاستسلام من خلال الخاصية الحربائية «حركة تغيير الجلد» لا محو ذاكرتها العقدية، وتلك الحركة هي من تُنتج «المسخ الثقافي».
أما على مستوى»الغاية» من الإضافة فهذا يتعلق بالشرط الآخر وهو «حصول منفعة» بالنسبة للعقيدة الثقافية، وبالنسبة للأنظمة الثورية دعم شرعيتها من خلال إنتاج العقيدة الثقافية للمجتمع، وتلك الشرعية لا تتحقق إلا من خلال رضوخ النظام لشروط تقبّل العقيدة الثقافية لعملية الهندسة الوراثية لها.
فالعقيدة الثقافية كما ذكرت سابقا من حيث «الوجود « هي أسبق من «الأنظمة»، لكن هذه الخاصية لا تحميها بالضرورة من التحول من «فاعل إلى مفعول»، وبالتالي تصبح الأنظمة هي الأسبق على مستوى «القوة»، لكن هذا الحاصل لا يضر بعناصر العقيدة الثقافية، إنما يؤثر على تغيير كيفيات الثقافة ومظاهرها.
وليست الثقافة هي من يجب أن تخضع لعملية الهندسة الوراثية، بل العقيدة الثقافية لتفعيل تغيير يتناسب مع غايات الأنظمة ثورية، وهو اشتراط مُلّزم غالبا لشرعيّة التغيير الحضاري لتلك العقيدة، ولا يُرفع ذلك الاشتراط عن اللزومية إلا في زمن الأنظمة الدكتاتورية.
جدة
sehama71@gmail.com