تضفي نصوص عبدالعزيز الشريف بشكل عام على المشهد الشعري بعداً إنسانياً أليماً، يعكسه واقع ديوانه الجديد» بين ماءين» على وجه التحديد، ليجد القارئ ذاته في أتون صراع محير، ترسمه نبرة العنوان الأولى المتمثلة في حيرة الإنسان أمام الماء، أو بين لجين عاصفين جراء أنواء وكدر لا يمكن للشاعر إلا أن يجوس عوالمه المترامية، ليخرج لنا الوصف انتقائيا على شاكلة القصيدة الفاتحة» وراء دمي» مضرجة بماء أو دم، لتعكس لنا فداحة الحياة لحظة أن تبين على طبيعتها:
«يجيد لغة الأموات
يعرف أسماء القادمين.
يكتب شواهد قبورهم،
يقوس أسباب موتهم..
يؤم جموع
موتاه للصلاة..»
تسكن الديوان لغة الشعر المفعم بعوالم البحث عن إجابة مقنعة للكثير من أسئلة الوعي التي تغص فيها النصوص، إذ بدأت متاهة الشكاية والسؤال المفعم بالألم عن هول الوعي حينما يذرف الشاعر دموع ذاكرته، وينزف منها جروح الذكرى، ليقرب لنا ما بات في نأي النسيان، حيث يستعيد في قصيدة «أشلاء» تفاصيل الماضي الأليم في جدلية الحوار الدائب بين البحر والإنسان على وجه التحديد حينما تستعصي سبل الحياة على سالكيها فلا يبقى مشرعاً غير طريق البحر على الدوام؛ ذلك المكتنز بذكريات مريرة وآلام سادرة في لوعتها، فلا تجد إلا الشاعر أو الفنان حينما يسلط سهام لغته نحوها:
«أسرد له جزئية السوق القديم
ورقصة الموت
والوجه الحجري
ووسادة الليل
والمشهد الأخير»
فلا شيء يعصم القصيدة من طوفان حزن الشاعر، إذ لا أصابع للفأل، أو أطراف تحرك ساكن هواء غرفته وخواء الروح الذي يهذي لوعة ما يشبه الحمى، أو دوي الصمت في خرائب النسيان.
في قصائد الديوان اقتضاب في اللغة، وتكثيف لدلالة الإشارة والإيماء حيث تبرز في هذا السياق تجربة الشاعر الشريف الطويلة في البوح الشعري، لينسج لنا من المعاني ما قل ودل، بغية الوصل إلى الحقيقة بأقصر السبل.
فلم تترهل قصائد الديوان، ولم يحشوها الشاعر بأي لفظ خارجي أو تهويم بعيد، إنما عني بالمشهد المكثف وباللغة المتقشفة رغبة منه أن يكون الديوان محملا على باعث محاربة الإطالة في القراءة لا سيما في مجال الشعر الذي قد تتطاول فيه المقولات، وتتوالد الصور حتى يصبح الوصف مكرساً للبوح المتمادي إلا أن الشاعر الشريف برع في رتق الفارق بين الفكرة والقصيدة واللغة بشكل متناغم ومتساوي.
قضايا الإنسان المعاصر والقديم، وهواجس المعدمين وأنين المكلومين وشذرات من بريق الحزن المعتق في قسمات الناس حيث تتفصد حبيبات القصيدة على لسان الشاعر بشكل أنيق، ليرتب صورها ويدقق في تفاصيل الوجد اللاعج بهدوء وروية:
«أقرؤه كل صباح
يحوم حول شاهدتي قبره
يشهق قبل بدأ التكوين
.. تفيق رجفة أقدامه
.. حلم شتائي
ينهض كمهد أبيض»
تدور مفصلات القصائد على رحلة العناء المتمادية والمستطيلة.. تلك التي يبرع الشاعر في احتوائها في جل النصوص، لتكون للقارئ دهشة اللقاء الحميمي بين القصيدة وأهلها، حيث يلمس المتلقي دون عناء أن لكل نص في هذا الديوان شخوص ووجوه، إلا أن الاسم والشكل قد لا يكون واضحاً، فقد عمد إلى أن تكون كل قصيدة بهوية مستقلة رغم رابطها العام مع ما سواها من قصائد.
فالخطاب الوجداني في الديوان محدد المعالم وذو بعد تأثيري واحد يبدأ عادة في أمر وجودي متعلق في الصراع الأزلي للذات الإنسانية؛ حيث يبين جلياً على هيئة سجال بين الخير والشر أو بين الحياة والموت، أو بين الجمال والقبح، أو بين الحلم والحقيقة، لتصبح القصيدة معادلة واضحة تكشف البعد الجمالي الذي يستنبطه الشاعر ويصوغه بهذا الإطار الشعري الجميل.
الوعي الشعري واضح في الديوان؛ لأن القصائد جاءت على هيئة مشغولات متناسقة، تعكس قدرة الفكرة واستحواذها على النص لكي تؤطر للقارئ ما يعن على لسان الإنسان من بوح ووجداني مفعم على الدوام بالبحث عن مفردة الخلاص من منغصات الزمن وهموم الواقع الذي يعيشه ابن هذا العصر حيث شغف الشاعر عبدالعزيز الشريف في نقله بكل أمانة واقتدار من خلال وريقات هذا الديوان الذي يعد إضافة نوعية للبوح الإنساني الواعي.
***
إشارة:
بين ماءين(شعر)
عبدالعزيز حمود الشريف
أدبي جدة - (ط1) 1432هـ- 2011م
يقع الديوان في نحو (136صفحة) من القطع المتوسط