هذا ما زاده وحشة
المرور على هذا البيت من قبل من لا يعرفه يأتي ضمن حدود (الصدفة البحتة)
بئر ماء على مقربة من ذلك المنزل هو كل مايشي بوجود مظاهر للحياة
حول البئر (حجر جيري صلب متكلس على شكل صحن كبير وعميق) يسمونه (الخورم) يقتعد مكانا بجانب البئر
يمتليء الخورم بالطحالب
تحط عليه حشرات طائرة متنوعة الأشكال
وبعض العصافير الجميلة
تبدد وحشة المكان وهدوءه المطبق
بطنينها.. وزقزقاتها..
يشاركها هذا العزف الهادئ
جدول صغير ينبع من صخرة مجاورة فيسيل نحو البئر
حياة أهل ذلك المنزل على ما يبدو تدور في فلك واحد لا يتغير:
روتين يومي محفوظ
تستيقظ الأم فتذهب إلى قمة الجبل لجلب البرسيم والأحطاب ولاتعود إلا مع حلول الليل
فيما البنت تذهب إلى (سفح الجبال أو إلى الشعيب المقابل).. لاصطياد بعض الطرائد أو لجلب (أغصان وأوراق الشجر النابت هناك) تمهيدا لعمل وجبة يوم كامل.
كانت البنت تظفر أحيانا (بنباتات برية) في أواخر عمرها تؤكل غضة ودون طهي مثل: الفعمة – وأحيانا الغلف وقد تجد في أطراف المزارع التي تعاني جفافاً قاحلاً بشجيرات غضة تؤكل مطبوخة يسمونها هناك (ثفلة)
سليقها لذيذ جدا على ألسنتهم
وأوراقها مع قليل من الطحين تغدو حساءً في منتهى اللذة لأفواه يكاد يقتلها الجوع،،،
بالقرب من البئر تنصب (شراكاً) لاصطياد الطيور
باستخدام الأعواد المرصوفة بطريقة محترفة
وخيوط معقود بطريقة معينة
تنصب على حفرة مغطاة
تسقط فيها فلا تستطيع الخروج من الفخ
الأب المقعد... الأعمى... يستيقظ صباحا
يجلس على حافة سرير مهترئ..
يدخن السجائر... يشرب الشاي
يجيد العزف على (الناي)
وهو ماتعارفوا على تسميته بـ(الصفريقة)
فيطلق به أجمل الألحان
من: يا خجلي من أمي... ومن بنات عمي
حتى: أنا يابوي أنا
ويابنات المكلأ
ومتى شعر بأن الليل أقبل
عزف على الناي
رائعة الأبنودي
وعبدالحليم حافظ
(النهار عدى... والمغربية جايّة)
وإذا لم يعجبه أحدهم
كان يعزف لزوجة ذلك الرجل
حليلك يوم أخذتيه...
عادة ما كان يكح
.... حتى تتقطع أنفاسه
وفور عودة الأنفاس الطائرة وإنتظامها
يعاجل بإشعال السيجارة
وفي منتصف الليل
متى أحتاج الخلاء لقضاء الحاجة
لايستطيع أن يوقظ زوجته
التي تنهره بعنف لأنه أزعجها
تقول له: أمسك حاجتك حتى الصباح
وإلا أفعلها على نفسك
فيختار الحل الآخر
يفيق ابنته من نومها
يعللها بأنها مأجورة ببره
تأخذ بيده نحو الخارج
وفي كثير من الأحيان تقرب له
آنية معدنية مخصصة لقضاء الحاجة ليلاُ
الآن فقط عرف الرجل أسباب عدم رحيل الأسرة مع قوافل المغادرين من تلك القرية
ألقى نظرة عبر الباب المطلي بالقار الأسود
لمنع أسراب النمل الأبيض (الأرضه) من الهجوم على الباب
يسميها ذلك العجوز الأعمى (الربية)..
للباب الخشبي مصراعيا أحدهما فقط هو الموجود فيما الآخر غير موجود نهائياً..
لا أعلم كيف يغلقونه عند حلول المساء؟ في وجه الريح والبرد
وحتى في وجه السباع.. أو الهوام والكلاب؟؟
ربما أن الكلب الأسود الرابض أمام الباب من الخارج هو من يقوم بالمهمة يسمون كلبهم (هرّار)
بيت هذه الأسرة
بدائي مقارنة ببيتنا المكون من أربعة أدوار من الحجر والذي ينتهى (بجهوة) مفتوحة على الأفق المحيط
هاجر جميع أهالي القرية بعد أن حل الجفاف
في ظاهرة يسمونها (الحلول).. حين ينزلون بأراض ممطورة وقرى أكثر رخاء
هذا ماعرفه لاحقا من الفتاة الجميلة عندما ترصد لها في الطريق بعد حين
عندما سرق طرف عينيه من خلال الباب النصف مفتوح
رآه مقسوما إلى نصفين
نصفه مسكن للحيوانات (إسطبل ومذود)
فيما النصف الآخر هو لكل شيء يخطر على البال
(مستودع - مطبخ - دورة مياه - استقبال الضيوف - النوم)
هذه التقسيمات لاتتجسد داخل البيت على شكل جدران
هي وهمية كخطوط الطول والعرض في الجغرافيا
وأحيانا يختلط هذا التقسيم فتجد (الدجاج والضأن والبقرة والحمارة الرشماء وابنتها الجؤذر الصغيرة المولودة قبل شهر والقطة السوداء وصغارها والكلب الحارس) تترك مكانها المخصص لتحتل النصف الآخر من البيت
خصوصاً في الليل حين يتحول البيت حركة دائبة
تجد الحيوانات. تتجول في أرجاء المنزل جيئة وذهابا
لايثير الاستغراب أن ترى إحدى النعاج تتربع على السرير بجانب العجوز
(هرّار) كلبهم الوفي
دأب على مرافقة الغنم نحو سفوح الجبال
وفي أطراف الشعيب والمزارع المحيطة
عادت عند المساء الأغنام فيما (هرّار تأخر على غير العادة)
وضعت الأم يدها على قلبها خوفاً على (هرّار)وأخبرت زوجها بتأخره
لأول مرة منذ حين على مايبدو
كان هناك حديث مشترك بينهما
وهما يتساءلان عن سبب تأخر كلبهم الوفي
الظلام بدأ يزحف رويدا رويدا نحو المكان
كمن يختبيء خلف الأشجار المحيطة
لسوء الحظ تلك الليلة من الليالي التي لاضوء فيها
فالقمر محجوب خلف السحب الكثيفة
الانتظار الوجل لمعرفة مصير (هرّار)
يجعل من تلك النفوس تزداد ذبولاً
والإنهاك يخترم تلك الأجساد المنهكة في الأصل
الفتاة وصلت متأخرة مع حلول الليل
دخلت على الفور نحو (المنزل)
تناولت إبريقا من الماء
تجردت من ملابسها
وبدأت تغسل جسدها وشعرها في داخل المنزل
من يعلم عن تأخر (هرّار) والدها ووالدتها فقط
يراقب المحتجي في سفح الجبل المقابل الفتاة التي تغتسل ويتلصص عليها بخبث
يستمع لحديث الحزن الذي تتداوله الأم والزوج على كلبهما
الفتاة تسمع حساً غريباً
يأتي من ناحية البئر
من بين ركام الظلام
رأت هرّاراً يصارع الماء في الخورمة الكبيرة
بعد أن سقط فيها
لم يكن أمامها من بد إلا إنقاذه
فرحت بجنون... أن وجدته في الرمق الآخير
أستغلت ما تملكه من خبرة في (الإسعافات الأولية)
عرفتها من بنت أخيها
التي تزورهم كل سنة مرة
وضعت فمها في فم الكلب
وبدأت تنفخ في جوفه
ضخت الأكسجين في جوفه
استمرت الفتاة لمدة تزيد عن خمس دقائق
تدلك صدره تمنحه (قبلة الحياة)
لم تنجح محاولاتها
ومات الكلب بين يديها
هذا ما عرفه الوالدان وتأكدا منه
بعد أن سمعا دوي صوت الفتاة تبكي
بحزن وحرقة
ودوي صوتها وهي تندب هرّار يملأ المكان
يبدو أنها أمام لهفتها لإنقاذه
انزلقت بقوة فوق جسده الغض
فهشمت أضلاعه
مرض فيروسي خطير
نقله إليها (هرار)
بعد ثلاثة أيام فقط
لحقت بهرّار
أبوها قال: إن الكلب نقل إليها الفيروس
وأمها تفسر موتها
بأنها قضت حزناً على أنها قتلت هراراً عن طريق الخطأ
-
+
- المخواة