تنضج الرواية عادة مع نضوج المجتمع، لأن التراكمات الحضارية والثقافية لا تأتي بين عشية وضحاها.. ولا يكفي فيها الموهبة الخلاقة أو البيان المشرق أو الحماس الأدبي للتعبير والظهور.
فالرواية الغربية (الأورو أمريكية) لم تنضج مثلاً خلال خمسين أو مائة سنة وإنما احتاجت لوقت أطول استقرت فيه مجتمعاتها وتقدمت وامتصت حليب النهضة وذاقت عسل التقدم بعد أن قدمت لهذا وذاك حقه من التضحيات.
وكثير من المتعجلين للظهور من شبابنا من الجنسين يعتقدون أن بعض الموهبة والحماس والمساعدة للبروز تكفي لتكريسهم أدباء أو شعراء.. قصاصين أو روائيين، ويتجاهلون حقيقة هامة تولد حقائق موضوعية كثيرة ألا وهي أن الموهبة وحدها لا تكفي وقد تموت أو تهمل ما لم يسقها صاحبها بماء القراءة ويتعهدها بالعيش في الجو الثقافي والأدبي ويعرف أسرار موهبته وحدود قدرته ومجال تحركه، فيقرأ مثلاً عن تاريخ الرواية العالمية ويرجع إلى أصول هذا الفن ومقوماته فلكل فن في الحياة قواعده فالعازف الموسيقي لا يمكن أن يجيد العزف على كل الآلات ولا يمكن أن يتخذ الرنين من بعضها دليلاً على إجادته للعزف، والرسام لا يمكن أن يجيد رسم لوحة بدون فكرة وقواعد للرسم يدرسها وتناسق في الألوان يجيدها، والشاعر كذلك ما لم يعرف فن الشعر والجرس الموسيقي والوقع والوزن تحول شعره إلى نثر مسجوع أو نظم ممجوج وقس على هذا سائر الآداب والعلوم الإنسانية والبحتة.
لا أدري من من الراتعين في مجال القصة أو الرواية قد قرأ كتاباً في فنها وأصولها وقواعدها مثل: الرواية في الوطن العربي لعلي الراعي أو فن القصة للدكتور محمد يوسف نجم أو فن الرواية لكولن ولسن، فن السيرة للدكتور إحسان عباس أو فن القصة أو فن الشعر - به أيضاً - قبل أن يغامر بالتأليف والنشر ناهيك بالكتابة في الصحف أو الظهور في الإذاعة أو التلفاز.. ومن منهم قرأ روائع الروايات العالمية الكلاسيكية والحديثة.. ومن منهم يجيد لغة أجنبية؟؟
إن هناك فروقاً طبيعية وموضوعية لما يتمناه الإنسان وما يستطيع تحقيقه وكل شيء في الكون له نواميس وأصول وقواعد لا بد من مراعاتها وإلا لاختل كل شيء ومن ذلك العمل الأدبي والفعل الثقافي والتفكير الفلسفي.. إلخ.
إنني لا ألقي هنا درساً أو موعظة وإنما من حقي أن أطالب الموهوبين أن يتعهدوا موهبتهم بالدرس وأن يترك غير الموهوبين مجالات لم يخلقوا لها وبالتالي لا يستطيعون النجاح فيها.. بل إنهم يفرضون فشلهم ليس على أنفسهم فحسب وإنما على الآخرين وعلى القارئ الذي يدفع في الكتاب ثمناً من قوته ويضيع وقتاً من عمره، وهذا ابتزاز صارخ للآخرين إذا ارتكب عن تعمد أو استغفال للذات وأنانية مرفوضة إذا وقع عن جهل أو بلاهة أو لا مبالاة.
أقول ما قلته لأنني في حياتي الثقافية الطويلة والحمد لله منشغل بالقراءة والكتابة وقد أهدرت وقتاً طويلاً ومالاً وفيراً في جمع الكتب وقراءتها وفي طبعها كمؤلفاتي وبيعها أو إهدائها، ووجدت بعد كل هذه السنين الطويلة أنني ضيعت الكثير من الجهد والمال ناهيك بالارهاصات الفكرية والإرهاقات البدنية، ولكنني لم أندم قط إلا على كتاب اشتريته أو ألفته ولم يكن في مستوى القراءة أو البقاء لأن الخلود الأدبي سيظل هاجس كل كاتب وأديب وسيراهن عليه الكبار والصغار في عالم الفكر والثقافة والأدب.
إن كتاباً تشتريه - مثلاً - بثمن غالٍ لأنه ممنوع أو تهربه في حقيبتك من الخارج وتمضي في قراءته وقتاً طال أو قصر ثم تكتشف أن مؤلفه لم يعطيك مقابل ما تكتبه من خسارة مالية ومعنوية لهو جدير أن تقذف به في (الزبالة) لا أن تضعه في مكتبتك الخاصة؟!
قد ينحي الإنسان أحياناً باللائمة على نفسه عندما اشترى هذا الكتاب المجهول النسب؟؟ فهو قد يكون لمؤلف / مؤلفة من أحداث الشداة أو المتأدبين أو تلاميذ الشهرة والأضواء، ممن يكتبون - أو يكتب لهم - غثاءً يسمونه شعراً أو قصة أو هراء يدعونه سيرة أو رواية ولكننا في عصر اختلطت فيه الأوراق وتشابكت فيه الخيوط، والحابل بالنابل، وهذا شجع الكثيرين ولا سيما من فئة الشباب على الولوج في بوابة التأليف الواسعة من مرتقاها السهل - الحكاية أو السجع فسموا الأول رواية أو قصة والثاني شعراً ويا لها من طريقة مضحكة في (النصب) الأدبي تضحك منها الأشجار والطيور!!
ويأتي بعد ذلك اختيار العنوان القادح والغلاف الصارخ وثالثة الأثافي الإشهار سواء بالشللية أو بالواسطة الإعلامية ومرادفها أشباه الكتاب والنقاد الذين يودون لو يحوم حولهم كل الشداة والناشئين ليتحولوا إلى مريدين وحواريين لهم؟!
من هنا.. فإنني أعترف لكم بأنني تورطت في شراء الكثير من الروايات الجديدة وضيعت فيها وقتاً وجهداً ثمينا ولكنني لم أقم برميها في (الزبالة) بل قمت بصرفها على طريقتي الخاصة بعد أن وقع الفأس في الرأس - كما يقال - وأعطيتها ربما احتراماً مني للكتاب الذي أعشقه عشقاً تاريخياً ولا أحب رميه أو حرقه أو تمزيقه مهما كان مستواه، إلى من أرى أنه يصلح له من المعارف والأصحاب الذين لا يقرأون في السنة إلا بضع صفحات وأعتبرهم من دهماء وعامة المحاولين للقراءة أو المتمسحين بالثقافة؟! إلى جانب أن مستوى وثقافة وعقلية بعض القراء تتساوى مع مستوى العمل الأدبي الفاشل، وهناك أناس قد تعجبهم الكتب الفجة كما تعجب آخرين الأغاني والفنون الهابطة والفواكه المخمرة أو حتى الفاسدة!!
ولله في خلقه شؤون.. وشجون أيضاً وهذه الإضافة من عندي وعلى مسؤوليتي الخاصة!؟
عشت إذاً مع مجموعة من الروايات الصادرة حديثاً بهذه المشاعر التي أشرت إليها سابقاً.. وأردت أن أستعرضها على طريقتي وبناءً على قراءاتي لها وموقفي كأديب مما قرأته فيها وأصدقكم القول بأنني نسيت معظم التفاصيل الواردة في بعضها بعد أيام قليلة من إكمالي قراءتها مما جعلني أتذكر مقولة قديمة لا أذكر من قالها وفحواها: أن الكتاب الذي لا يخلد أو يبقى على الأقل ربع قرن فهو ليس بشيء؟!
وأضيف: إن العمل الأدبي - الثقافي - الفكري الذي يسقط من الذاكرة سريعاً هو فاشل. لا أدعي بأنني ناقد أدبي أو ثقافي كما ادعى غيري من المرتزقين بالكتابة النقدية في الساحة المحلية فهؤلاء لهم همومهم وطموحاتهم الذاتية الخاصة التي هي أبعد عن النقد أو الصدق وأقرب إلى النرجسية وعبادة الذات وبناء القصور في الهواء واللهث وراء الشهرة والأضواء.
لقد قرأت هذه الروايات بعين الأديب الذي يسعده أن يرى موهبة جديدة وزهرة متفتحة كما يحزنه أن يرى الغثاء والزيف في بعض تلك الروايات التي تورطت في شرائها وقراءاتها ثم ها هو الآن يكتب عن بعضها أو معظمها بصدق وتجرد لا يطمح إلى إيلام أو إغضاب أحد من المؤلفين أو التجني على بعض الموهوبين ولكن المواهب الأدبية قد تكون ناقصة ومن ألف فقد استهدف!
وهذا وذاك ليس نهاية العالم.. ولكل ساقط في الحي لاقط، ويشفع لي أنني لا أعرف شخصياً أياً من هؤلاء المؤلفين أو المؤلفات أو أسمع بمعظمهم من قبل؟!
وأخيراً فإنني رأيت لزاماً علي أن أكتب ولو بعض الانطباعات عن هذه الروايات علماً بأن بعضها لا يستحق أن يرقى إلى مستوى الرواية وإنما هو حكاية، ومشاعر مكبوتة تنفست أخيراً مع هبوب نسائم الإصلاح وبعض الحرية والإفصاح فطفقت شهرزاد ومعها شهريار يتكلمان في المباح وغير المباح؟!
وكما أشرت آنفاً فإن التراكمية الحضارية - الثقافية ووجود العلاقات الاجتماعية المعقدة، والانفتاح على الغير داخلياً - وخارجياً هي التي تغذي - وغيرها الفن الروائي المتكامل.
إنني أثق بأن الروائي السعودي في هذه المرحلة ومهما كانت درجة موهبته أو حماسه للإبداع وقدرته على السرد فإنه لا يملك المحيط والأدوات التي يملكها زميله في أوروبا أو حتى في أمريكا اللاتينية وبعض الدول العربية كمصر ولبنان والمغرب وهنا أريد بقولي هذا ليس إحباطه وإنما إنصافه، فمنذ ظهور (التوأمان) و(البعث) قبل سبعين سنة مروراً بحامد دمنهوري وسميرة محمد خاشقجي (سميرة بنت الجزيرة العربية) وغالب حمزة أبو الفرج وإبراهيم الناصر الحميدان وصولاً إلى غازي القصيبي وتركي الحمد ورجاء عالم وعبده خال وعبد الله الجفري ويوسف المحيميد وبدرية البشر وزينب حفني وغيرهم فإن الرواية السعودية لم تنضج بعد ولن تنضج قريباً بسبب الظروف الموضوعية التي أشرت إلى بعضها سابقاً أما القصة القصيرة والحكاية فقد كادت أن تنضج لدى الكثيرين من كتابها السعوديين.
وإذا كان هناك بعض الاستثناءات التي تكرس الإنصاف والبعد عن التعميم والأحكام الكاسحة أو النهائية التي قد يتخذها بعض الموتورين كحجة علي.. فإنني أقول بأن القصيبي مثلاً وعلى الرغم من إنتاجه الغزير وجلده وكده الأدبي المتواصل الذي يغبط عليه حقاً لم ينضج لديه الفن الروائي - في رأيي - إلا في رواياته: 7 والجنية وإلى حد ما العصفورية وشقة الحرية لأنه خرج عن محيطه المحلي وربط بين الخارج والداخل والمعقول وغير المعقول والواقع والخيال ولا غرو في ذلك فهو شاعر من قبل أن يكتب الرواية وناثر لا يشق له غبار.
إنني لا أنزه القصيبي من الهنات الفنية العديدة في رواياته التي قرأتها له والملاحظات التي قد يبديها غيري عليه أكثر ومثله كذلك ولكن بدرجة أكبر ما سماه تركي الحمد بالروايات وهي في الواقع سير ومنشورات ضمنها أفكاره ورؤاه وهو المختص العليم في مجاله (العلوم السياسية) والليبرالي النزعة والساعي للتنوير والمقاتل من أجل الحداثة والمتصدي للظلام والظلاميين الذين يرهبون المجتمع ومثقفيه.. ولكن الرواية ليست (منفيستو) أو بيان أيديولوجي أو ثوري! وإنما هي من قبل ومن بعد إرهاص اجتماعي وتراكم معرفي وثقافي ضخم له بعد إنساني يعلو به حتى على الهموم المحلية والآلام الفردية ويبعده عن المحلية إلى فضاء العالمية شيئاً فشيئاً، ومن ضيق القومية إلى فسحة الإنسانية.
إن المؤدلجين والوعاظ لا يمكنهم أن يكتبوا رواية ناجحة كما أن الذين يغمرون الرواية بسيرتهم الذاتية وهمومهم الشخصية هم جبناء عن البوح الصراح والصراخ في الليل الطويل الذي لا بد أن ينجلي مهما طال الزمن، وعندها يستطيعون كتابة مذكراتهم واعترافاتهم.
اكتبوا مذكراتكم أو سطروا ذكرياتكم - لا فرق ولا ضير - ولكن لا تسموها - من فضلكم - رواية، وثرثروا أو انقلوا حكي النسوان وأحلام الصبيان ونميمة الجيران ولكن لا تسموها رواية، انتقدوا كل شيء تكروهونه إبتداءً بالتخلف والرجعية والمذهبية والإحباط والكبت والتعصب الديني أو العرقي واشتموا القبيلة أو المدينة أو القرية ولكن - أرجوكم - لا تسموا هذا رواية.
فالرواية - أيها السيدات والسادة - غير ذلك، أليس من حقي أن أقول ذلك؟!
ربما قال بعضكم إنه ليس من حقي أن أقول ما قلته ولكن من أعطاه إجازة تكرسه كروائي أو روائية - لا فرق أو سلطة الفرض على الآخرين؟ أم أن النصب والبلف واللف والضحك على الناس وجد في دنيا المال والأعمال وغاب عن دنيا الثقافة والأدب؟! لا فالبشر هنا وهناك متشابهون؟!
-
+
- بيروت