حين نتحدث عن صناعة الخوف فنحن نتحدث عن صناعة متقدمة جداً وذات أصالة بحيث لا نكاد نجد من ينافسنا في إبداع صناعه كهذه الصناعة التي تبدأ من البيت (سلطة أبوية - خطاب أسري) مروراً بالمسجد (سلطة الفقيه - خطاب ديني) وليس انتهاء بالمدرسة (سلطة المعلم / خطاب معرفي) لذلك فهي صناعة مجتمعية متشابكة، يتلقفها السياسي فقط ويمارسها بكل طبيعية لا تخلو منها طبيعته هو أيضاً؛ فهي من جهة جزء من تكوين «الراعي» ومن جهة أخرى جزء من تكوين» رعيته « المُهيأين فكرياً ونفسياً لجميع أنواع التجهيل بما فيها نوعي الخوف والتسلط، لذلك نحنُ بحاجة ثورة فكرية على خطابات متراكمة من التجهيل.
علماً بأن هذه الثورة لن تكون باختطاف المصطلحات وتبادلها بدون وعي، فقط من أجل حقنها في خطابات متعدده لاستغلالها وتوظيفها كيفما اتفق تحت ضغط من ظرف زمني حرج تمر به البلدان، لنجد السياسي اليوم لا يكل ولا يمل حين يتحدث عن «الفتنة» وبعض الفقهاء أصبحوا فجأة يُمجّدون «الثورة»، هذا المصطلح الغريب والطارئ بل والمُحارب في خطاباتهم التاريخية السابقة.
الثورة فكرياً لا تكون إلا بوعي تاريخي ومعرفي مفاهيمي مُتكامل، وأشدد هنا على كلمة وعي لأنها هي مفتاح الرِهان، فنحن لدينا الكثير والكثير من التراث الذي لم «يؤرخ» بعد بالمعنى المنهجي النقدي، وهذا ما جعل لدينا «تاريخ» مترهل تراثياً ولكنه مع ذلك مُغري لأي أصوليه من أجل اختطافه وتأويله ومن ثم توظيفه سياسياً وعسكرياً، فيما هو يُثقل في ذات الوقت كاهل كل من يفكر في توظيفه من أجل تقدم اجتماعي مدني وسلمي، ليغيبَ عن واقعنا بعد هذا التضاد أي أمل في «تأريخ» بالمعنى العلمي الرشيق والفاعل، وكل هذا يحدث بفعل غياب الوعي، هذا المشرط الجراحي الذي يمكن أن يتخلّص به هذا التاريخ من تراكم دهون تراثيه عن طريق جرعات من النقد لهذا التاريخ أو بتحليله وتفكيكه بل ومحاكمته إذا لزم الأمربكل شفافية، كما هو حاصل لدى شعوب تقدمت وتنوعت داخل أوطانها فاستطاعت تجاوز ذاتها وعُقدها وعصبياتها بنفس القدر الذي تجاوزت فيه منافسيها وكل ذلك حدث بسبب من جرأتها في وعيها التاريخي.
هذا الوعي في إحدى جزئياته مثلاً يشرح لنا كيف أن مصطلح «مقدس» يُفترض أن يُشير في مفهومه لطبيعة مثالية متعالية ومتسامية جداً و خالية من كل التناقضات، وبالتالي ما يُشير اليه يستعصي قطعاً حتى على الفهم والاستيعاب البشري التام، ومن هذا المنطلق يلفت نظرنا هذا الوعي بأن الفرصة كانت مواتية جداً لسلطة الكهنوت البشري لاختطافه واستخدامه كسياج حامي تُحيط به هذه السلطه كل ما لا تريد من أحد الاقتراب منه سواء كان ذلك الاقتراب بالسؤال أو التحليل او البحث أو الإنكار، لتظهر لنا أخيراً هذه المفارقة الأعجب حيث إن هذا البشري الذي يعترف بأن ما تشير اليه هذه الكلمة فوق فهمه وإدراكه إلا أنه قد يصل به الأمر أن يموت من أجل فهمه أو فهم شيخه البشري القاصر لها، وليس من أجل مفهومها الحقيقي والمستعصي علينا سلفاً.
الوعي التاريخي خطوة أولى فقط تقودنا لاستيعاب وملاحظة هكذا مفارقات نعيشها وتعيش فينا دون أن نلحظها، وهذا فقط ما سيساهم في تقديم آلية تفكير جديدة كلياً تساهم في إيجاد فلسفة أخلاقية حياتية مميزة كما تساهم في إيجاد آليات سياسية واقتصادية رشيدة تعي تماماً أن السياسة على سبيل المثال ما هي إلا فن الممكن وفن الممكن لا يريد ذهنيات آلياتها ثنائية مغلقة (أبيض أو أسود، حرب أو سلام ) بقدر ما يريد ذهنيات متعددة ومتنوعة في آلياتها وفي خياراتها وفي انفتاحها على كل ما هو ممكن.
ختاماً ومع الاكثار من الحديث عن الخوف والتسلط يحلو الحديث أيضاً لطمأنة الذات عن العدالة والحرية والمساواة هذه المفاهيم المُتعاليه التي تم تأسيسها والاشتغال عليها طويلاً بعمر الوعي البشري كما بعمر التاريخ الزمني لذلك لن تعيها أو تبحث عنها فقط (والأهم تحافظ عليها) أصوات عاليه أو بطون جائعه يسد صوت جوعها القليل بقدرما تعيها وتحافظ عليها عقول استوعبتها تماماً وتشربتها منذ نعومة أفكارها وما يزال جوع فضولها المعرفي لهذه اللحظه يدفعها للكثير من العلم والمعرفه خَشية أن تعود في أي لحظة تلك البيئة الخصبة لهذه الصناعة التي لا يأمن عودتها العارفين بطبائع البشر ونفسياتهم إلا بضمان استمرار الوعي والمعرفة فالإنسان كان وسيبقى عدواً لما يجهل، والعداواة كما يَعيها التاريخ: خوف يدّعي الشجاعة حتى لا يُفضحَ أمره، فيُغلَب على جُبنِ جَهله.
-
+
Alturki.tt@gmail.com
- جدة