عنصر التحفيز
يتشكّل نسيج كتابة المقالة القصيرة عند «العلي» من تفاعل عنصر التحفيز الخارجي «اليومي» الذي يغدوكعود ثقاب صغير كاف لإشعال مصباح من مصابيح الغابة الخضراء الضخمة التي ينطوي عليها تكوينه المعرفي وأبعاده الموسوعية، وأدواته التشكيلية الفنية، لإبداع كتابة نص وليس مقالة وحسب - في العديد من الحقول - فيعمل «اليومي»، على استفزاز مكوناته الوجدانية والمعرفية للانفعال به وتحويله من حدث عابر إلى « حالة» تفتح باب الكتابة لمتعة تحليل ما يقبع خلف إشاراتها «الآنية» من أبعاد أخرى.
يقول في إحدى مقالاته: « كثيرة هي اللقطات التي نمرّ بها يومياً، في الجريدة والتلفزيون والشارع، ولكن بعضها هوالذي يبقى في الذاكرة، لا لأنه أهم من غيره، بل لأنه أهاج فينا تأثراً ما، إما بفعل اللحظة التي نمر فيها نفسياً أوبفعل سبب آخر قد لا نعرفه، لأنه قادم من هناك.. من غابة النفس الواسعة الأدغال. (كلمات مائية - ص 21).
ويقول في نفس السياق: « بعض الأخبار تغريك بان تفسح له مكاناً في ذاكرتك، لا لأنها تحمل معنى مباشراً، إنسانياً أوأخلاقياً، بل لأنها تحمل من المعاني الضمنية ما ينشّط خيالك لاقتناص أبعاد كثيرة، يمكن أن يكون التحدث عن بعضها حلواً أويكون بالغ المرارة، أولا يكون هذا ولا ذاك، بل مجرد عبث بلاغي أوإنشائي» (المصدر السابق – ص 29).
أسلوبه الفني وأدوات
(المقالة - القصيدة)
لكاتبنا أسلوبه الخاص والمتميز والمتفرد أيضاً، وذلك ما يستحق قراءة أسلوبية معمّقة، ولكنني لضرورة عمومية استكمال الصورة عن مقالاته، سأكتفي بالإشارة إلى أبرز سماتها، والمتمثلة في:
أناقة اللغة (في اختيار المفردات، وفي جمالية بناء العلاقات فيما بينها، وفيما تحيل إليه شبكتها الفنية والدلالية من مرجعيات) مصحوبة بالتوهج الوجداني، وسلاسة التدفق، ودقّة التحديد والتوصيف، وقصر الجمل التعبيرية، ورشاقة الانتقال ما بين فكرة وأخرى، وبين حالة وحالة، بما يجعل من شعره ومن كتابته تشكيلاً «كريستالياً» يشعّ بتعدد الملامح والدلالات المنبثة عبر رهافة الصور وتداخلها، وعذوبة اللغة وأناقة التشكيل.
ينطوي أسلوبه على مهارة شديدة الصفاء والخصوبة، تجمع ما بين الوضوح المغري بمتابعة القراءة، وبين الغموض(المضلّ الهادي - بحسب تعبيره -) المحمّل بما يستحثّ قارئه على المشاركة في متعة القراءة وفتنة التأويل، فيملأ نصف الكأس ويترك قارئه متشوقاً وباحثاً عن ملء النصف الآخر بنفسه، من أجل تحفيزه على تأملها والاستمتاع بها، أورفضها، بمحبة أوغضب، بيد أن جمرة سؤالها ستظل حارقة في الحالتين!
يكتب بتأنٍ، بعيد عن المباشرة أوالافتعال.. يفكّر..يتأمل..يشطح..يعلّل أحياناً.. ويترك الباب مفتوحاً في كثير من كتاباته حين يركن إلى قلق السؤال دون الذهاب إلى طمأنينة الإجابة، وكأنه يستخدم أسلوب الكتابة ما بعد الحداثية (رغم موقفه المضاد لها في مستويات أخرى)، حيث يصنع حياة داخل الكتابة، تتخفف من الرصانة والترابط السببي الخاص بالبحوث والدراسات، ويعمل بهدوء وبدون محرضات دعائية، على تفكيك اليقينيات والمفاهيم القارة، مستفيداً من توظيف مخزونه المعرفي الواسع ورؤيته النقدية، وعينه اللاقطة «لمكر» المفارقات، ومن حسه الذاتي المحمل بركائز حس الدعابة والسخرية.
الفكرة في كتابته مهمة، ولكنه لا يأتي إليها بشكل مباشر، أومستعجل..بل يكتبها مستعيرا من الشاعر رهافته ومخياله، ومن المفكر دقته وأناته في التحليل، ومن السارد الحواري مقدرته على التدرج في بناء حبكة النص من المقدمات والتفاصيل حتى الذروة التعبيرية، حيث يهيئ قارئه لأن يكتب الجزء الخاص به من هذا النص، ويصبح أسلوب كتابته جزءاً أساسياً من موضوعها، لأن هذا الغنى الإنشائي بمعناه الإيجابي «يعد جزءاً من امتياز الكتابة المعاصرة.... حيث إن وعاء النظر يعتبر جزءاً من النظر، وكفاءة التطريز اللغوي غير المتحذلقة، تعتبر دليلاً على حيوية في الفكر.... في زمن التناص والقراءة والتأويل وتداخل المناهج واستعارة المفاهيم..الخ « (د. كمال عبد اللطيف – قراءة في نقد الفكر اليومي - منقولة في موقع منبر الحوار والإبداع).
وفي هذا السياق يبني نصه وفكرته عبر استدعاء وإدماج مواد كثيرة في متنه، تشتمل على آيات من القرآن الكريم، وأبيات شعرية تراثية ومعاصرة، مثلما يستشهد بمقتبسات من أقوال الكتاب والمفكرين، إما لتدعيم وجهة نظره أوللحوار حول منطلقاتها أولنقضها، مثلما يعمد إلى استثمار عناصر المقابلة لتدعيم روح المرح والسخرية في النص، ويذهب أحيانا في اتجاه مغاير تماماً حين يخصص بعض مقالاته بشكل كامل لأن تكون مساحة لإعادة الحياة إلى نص منقول من كتاب، وقد نشر الكثير منها تحت عنوان « سيريالية».
التخفّـف من الطابع النظري للمقالة، من خلال الاستشهاد بما تنشره الصحافة من كتابة يومية تعنى بمشاغل وهموم الناس، وبما تحفل به من قضايا ثقافية وما تنشره من إبداع، لإضفاء طابع الحوارية والسجالية لمقالاته، لذلك يحتفظ بأرشيف خاص يتابع فيه الصحف، ويدوّن ما يلتقطه من قضايا تطرح عبر الحوارات التلفزيونية، ويثري هذه اللقطات - في مرحلته الحالية - بما يطلع عليه في فضاء الإنترنت، وما يصله من رسائل القراء والأصدقاء على البريد الإلكتروني.
يتوجه إلى قارئ ضمني - حتى وإن قلنا إنه يكتب ما يشاء في مقالته في جريدة اليوم - لذلك يخاطبه، أويستعيد معه مقالة سابقة، إما لإغنائها أولنقض بعض ما ورد فيها أوتصحيحه.
يقول في مقالة له بعنوان « الجمهور المفترض « إن كل مبدع «في أي حقل من حقول الفكر والوجدان، يكتب لجمهور لا يعرفه.. إنه جمهور مفترض يتسع ويضيق بحسب القدرة الإبداعية.. أوبحسب نضج الوعي الاجتماعي وفجاجته..»، ثم يضيف السؤال التالي: «هل هناك جمهور - مهما قل - ينتظر إبداع مبدع ما في ساحتنا الثقافية؟»
وسوف نجد الإجابة على هذا السؤال في مقالة سابقة له حول نفس الموضوع قال فيها:» إن الجمهور سُرِق من المثقف وأصبح وحده في وادٍ غير ذي زرع. وذلك لأسباب عديدة: من أهمها أن الجمهور لم يعد واحداً كما كان، بل تقاسمت نهره رواضع كثيرة من الاهتمامات المختلفة، وأنه دُجّن على الصمت واجترار همومه الذاتية...»(كلمات مائية - ص75).
إذن يعرف كاتبنا أنه وغيره من الكتاب الجادين لا يتوجهون إلى جمهور عريض - حتى وإن حرصوا على ذلك - وإنما إلى جمهور محدد، تتوفر فيه صفات القارئ المثقف والمهموم بالوطن والإنسان والشعر وحب الحياة، والذي يمتلك الحد الأدنى من الاطلاع على الحراك الاجتماعي والثقافي والفكري، ولهذا اختط طريقه خلال أربعين عاماً في التحاور مع هذا الشارع وفي مستويات البنية الثقافية الفوقية، مشتغلاً على تحويل ما يلتقطه من واقع الحياة اليومية إلى عنصر استدراج لقارئه، وإلى تكأة للتحليل وتأمل ونقدٍ لتعالقات «اليومي بالمكونات الثقافية السائدة».
-
+
الظهران