-1-
لا يجد (حارس قرية الفاو الأثريّة) سوى أن يدلّ زوّار القرية إلى بعض الأشجار القريبة في حافّة الوادي للراحة...
هكذا يشكو..
تُرى لو كان (حارسَ مرمى) في لعبة كرة القَدَم، ماذا سيجد؟!
***
في مقالاتنا السابقة تحدثنا عن (مِصْر) و(مصريم)(1)، والدعاوى الرائجة حولهما من بعض الباحثين، ثم عرّج بنا الحديث على آثار الجزيرة العربيّة، ولاسيما قرية الفاو، وأوضاعها، وما يكتنف زائروها من صعوباتٍ حين يأخذهم الهوس بالآثار إلى بعض تلك الديار.
فمن تلك الصعوبات أنه لا بُدّ من أخذ إذنٍ رسميٍّ للزيارة. فإذا وصل السُّيّاح إلى القرية، لم يجدوا إلاّ الحارس البائس، الذي لا يملك من أمره شيئًا؛ ممّا يضطرهم للعودة القهقرى إلى مكتب الآثار والسياحة، على مسافة 150 كيلو مترًا عن موقع القرية! وممّا يشار إليه أيضًا من تلك الصعوبات عدم وجود أدنى الخدمات أو المرافق، وإنْ للبقاء على قيد الحياة، ناهيك عن أيّ أحلام أخرى، ممّا يعرفه الناس في العالم المتحضّر. كما أن الطريق الموصل إلى القرية، والبالغ طوله حوالَي كيلوين، والمتفرّع من (طريق وادي الدواسر إلى نجران)، ليس سوى طريقٍ رمليٍّ غير معبّد، ممّا يجعل الوصول إلى القرية عسيرًا، إنْ لم يكن متعذِّرًا في بعض الأحيان.
وسيخبرنا (ابن سحيم)- حارس الموقع- على الرغم من ذلك: بـ»أن الزوّار كثيرون جدًّا، وخاصّة من الجنسيّات غير العربيّة- (فالعرب من نِعَم الله عليهم أنهم غير معنيّين بالثقافة والآثار طبعًا، فاهتماماتهم أكبر!)- وهم يمكثون في جولتهم عدّة ساعات، وكثيرًا ما يسألون (الحارس البائس) عن وجود موقعٍ للراحة، فلا يجد سوى أن يدلّهم على بعض الأشجار القريبة في حافّة الوادي»! وقد صاحبت التقرير صورٌ يندَى لها جبين التاريخ، من هياكل عظميّة ملقاة في زنابيل، إلى موجودات مهشّمة، تعرّضت للعبث والتكسير، إلى بقايا صخورٍ عليها كتابات ونقوش- قد سُرق بعضها، كما يبدو، وتُرك بعض- إلى معابد مهملة، ومعالم غامضة الحال.
ألم نقل: ليت الآثار بقيت في باطن الأرض حتى يأذن الله بحالٍ غير الحال؟!
ونتساءل هنا إلى متى هذا الإهمال العجيب؟!
وما الذي ينقصنا لنكون مثل العالم في الاهتمام بتاريخنا وآثارنا؟!
لقد كانت بلادنا جديرة بـ(وزارة للثقافة والتاريخ والآثار)، ذات استقلالٍ ماليّ وإداريّ، تتولّى تلك الشؤون الثقافيّة المشتّتة المرجعيّات، المتناثرة في وطننا الحبيب. وهو ممّا طالبت به مرارًا من تحت قبّة مجلس الشوى. فقد آن أن نشهد صحوة وطنيّة، تعي أن عصر الاعتماد على النفط قد ولَّى، وعصر التأسيس وإرساء البنى التحتيّة قد جاوز عمره الافتراضيّ لبلوغ الرشد. ومن ثَمّ فقد آن أن يكون تحوّلنا التاريخيّ نحو إدراك أن ثروة المملكة الأهمّ والأبقَى هي في الثقافة والتاريخ، لا في النفط، مهما بلغت أهميّة النفط.
إن الهيئة العامّة للسياحة والآثار، بقيادة رائد الفضاء الأمير سلطان بن سلمان، لا ريب تبذل جهودًا، ولها أيادٍ بيضاء، وطموحات مقدَّرة، غير أن ما يأمله المواطن، ويتطلّع إليه المثقّف، وينشده التاريخ، ويليق بالموقع الحضاريّ العالميّ، وبالزائر، والمقيم، والباحث، كلّ ذلك يظلّ أكبر بكثيرٍ من المتحقّق، بل من القدرات الفعليّة والإمكانيّات المتاحة. وما لم تُعَد الهيكلة، وتُدعم المشاريع، بما يتوازَى مع مكانة المملكة الحضاريّة، فلا كبير فائدة تُرجَى في حماية الآثار، ورفع مستوى حراكنا الثقافيّ، وتشجيع السياحة! فالسياحة ليست بحدائق عامّة، أو متنزّهات للعوائل، و»تليفريكات» فقط، بل إن عمقها الإستراتيجيّ والأهمّ والأبقَى هو في ضروبٍ من السياحات العلميّة والثقافيّة والآثاريّة.
وحينما تُرسَى البنية التحتيّة لسياحة ثقافيّة تليق بسمعة السعوديّة في العالم، ستكون المكاسب حينئذٍ جمّة، على مختلف الصُّعُد، اقتصاديّة، وثقافيّة، وحضاريّة. وهذا ما يؤمِّلُ كلُّ غيورٍ الالتفاتَ إليه بجديّة أكبر، فلقد حان أن تخرج الجزيرةُ من عباءتَي البداوة والنفط إلى ضوء شمسها الأبقَى، متمثِّلةً في رصيدها التاريخيّ العريق، الذي ظلّ يمنح العالمَ دفئه ونوره وعطره منذ الأزل.
-2-
إن التعصّب للتراث لا يقلّ عمًى وخطورةً من التعصّب عليه، أو الانسلاخ منه، أو إهماله. والأصوات الناشزة التي قد تظهر في هذا الوادي السحيق لا تمثّل رؤيةً ناضجةً تثمِّن تلك العلاقة الحيويّة بين الحداثة والتراث؛ إذ لا حداثة بلا تراث، ولا قيمة فعليّة لتراثٍ لا يبني الحاضرَ ويدفع باتّجاه المستقبل. والقطيعة المعرفيّة بين الأمس واليوم والغد في ميدان الثقافة والفنون والآداب محض وهمٍ حداثيّ (عربيّ تحديدًا).
وفي كتابه «سببٌ آخر»، يتحدّث (كميل حوا)(2)- في هذا السياق- تحت عنوان «التراث بين المخطوطات والمخلوقات»، عن العلاقة بين (الآن) و(الأمس)، أ و بين إنسان اليوم وتراث الماضي، ولاسيما في مجال العِلم البحت والاختراعات. قائلاً: «إن اكتشاف تراثنا لا يمكن أن يتحقّق بالعمق والشموليّة التي يتحقّق بها إلاّ عبر اكتشافه في أنفسنا، من خلال ما تثمره أنفسنا اليوم.» والفكرة المحوريّة للكتاب أن لا بدّ للتراث أن يكون «حاضرًا كبنية حيّة متحرّكة ومتحوّلة في كلٍّ منّا». وهذا ما نتّفق فيه مع الكاتب. غير أن علينا التفريق هنا بين حقلين معرفيّين، هما: حقل العِلم، وحقل الآداب والفنون. ففي الأوّل تحدث قطائع معرفيّة وقفزات هائلة، فيما العلاقة بالتراث في الحقل الآخر تظلّ تواصليّة، على المستوى اللغويّ والقوميّ، وإلاّ أدّت القطيعةُ إلى الاستلاب، وضمور التميّز في الشخصيّة الإنسانيّة.
على أن العلاقة تظلّ جدليّة بين النهوض والتراث؛ إذ لا يمكن النهوض على خواء، لا في المجال الأدبيّ ولا العلميّ. فالنهضة الأوربيّة- على سبيل المثال- لم تبدأ من فراغٍ ولا من الصفر، بل استطاعت أن تمتصّ التراثات الإنسانيّة، وتبني عليها ثم تتجاوزها. أمّا الانحباس في تقديس الماضي، والتوقّف عند ذلك، فذلك هو الفناء بعينه.
-3-
رَضينا عَلى رَغمِ اللَيالي بِحُكمِهِ
وَهَل دافِعٌ أَمرًا وَذو العَرشِ قائِلُهْ
لَقَد حانَ مَن يُهدِيْ سُوَيداءَ قَلبِهِ
لِحَدِّ سِنانٍ في يَدِ اللهِ عامِلُهْ
فَإِنْ باشَرَ الإِصحارَ فَالبِيْضُ وَالقَنا
قِراهُ وأَحواضُ المَنايا مَناهِلُهْ
وَإِنْ يَبْنِ حِيْطانًا عَلَيْهِ فَإِنَّما
أُولَئِكَ عُقّالاتُهُ لا مَعاقِلُهْ
وَإِلاّ فَأَعلِمْهُ بِأَنَّكَ ساخِطٌ
وَدَعهُ فَإِنَّ الخَوفَ لا شَكَّ قاتِلُهْ
أبيات لأبي تمام، تؤكّد ما تطرّقنا إليه في مقالٍ سالفٍ حول الثقافة و»صناعة الطاغية». فهذا تراثنا، وما أشبه الليلةَ بالبارحة! وأيُّ إفسادٍ يرتكبه المثقّفُ حين يصنع هذا بأُمّته! إنه ليرسِّخ بذلك ألوهيّةَ الحاكم.. والثمن معلَنٌ في آخر أبيات القصيدة، وهو (بيت القصيد):
رَجاؤُكَ لِلباغي الغِنَى عاجِلُ الغِنى
وَأَوَّلُ يَومٍ مِن لِقائِكَ آجِلُهْ!
وهكذا.. فحاطبُ الترث للتراث حاطبُ ليل؛ لأن في التراث فاسدًا وعظيمًا.
وإنما السؤال، كلّ السؤال: مَن نكون نحن؟ ثم كيف نهتدي لما نريد أن نكون؟
p.alfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify
(1) مِصريم: تعني في العبريّة: مِصْر، ولعلّهم ينطقونها هكذا: «متصرايم».
(2) (جدة: دار المحترف السعودي، 2011). و يضمّ الكتاب مقالات الكاتب في مجلّة «القافلة»، التي تصدر عن شركة أرامكو السعودية.
-
+
الرياض