رحم الله شيخنا الأستاذ الأديب عبدالله بن خميس الذي توفاه الله الأسبوع الماضي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. لم أقرأ لأستاذنا غير قليل مما كتبه في "المجاز بين اليمامة والحجاز" و"راشد الخلاوي" و"الأدب الشعبي بجزيرة العرب"، ولكني استمعت إليه. كانت أول مرة تشرفت برؤيته والاستماع إليه يوم لبى دعوة مدرستنا الثانوية، مدرسة اليمامة، أقيم في تلك السنة حفل تضمن مسابقة بين فريقين، وكان عليه أن يحكم بينهما، وحين دعي إلى الكلام وقف بقامة شامخة ووجه أسمر يجلله الرضا ويكسوه الوقار وتعلوه الهيبة، وبدأ يرتجل الكلمات من غير أن يُرْتَجَ عليه أو تداهمه حُبسة أو حُكلة أو يعتوره عِيّ أو حصَر، أما صوته فكان أكثر شيء شدني إليه، بجهارته ووضوح مخارج أصواته وسلامة لغته ووقعه الحسن المريح في الأذن والنفس، ليس صوتًا فاتنًا كأصوات المطربين ولا عذبًا كأصوات المقرئين؛ ولكنه كان صوتًا مميزًا، تجد له في نفسك وقعًا مريحًا، لا يقتحمك ولا يزعجك، بل تجد الأنس به وإليه ولا تمل سماعه. أُنسيت كلماته التي قالها في تلك الحفلة؛ ولكني لم أنس تشبيهه للفريقين أنْ رأى تساويهما عنده بأنهما "كركبتي بعير". كنت حريصًا على سماع برنامجه (من القائل) فكنت آنس بصوته وأعجب من سعة معرفته بأشعار العرب القديمة وبالشعر النبطي وما يصاحب ذلك من قصص ومناسبات. وأما آخر مرة تشرفت بلقياه والسلام عليه فحين لبى دعوة محافظة المذنب، وهناك كان هو وصحبه الكرام، وتكلم في ذلك اليوم وكانت كلمته قصيرة ولكنها معبرة عن فضله وعلو قدره، وأحسب أن ذلك اللقاء تكريم للمحافظة التي طالما احتفت بالعلماء منذ القدم قبل التعليم النظامي حين كانت أفئدة من الناس تهوي إليها لتتعلم على شيوخ العلم فيها.
ذهب واحد من جيل الموسوعيين الذين افتخرت بهم بلادنا، جيل زويت لهم علوم اللغة العربية وآدابها كما زويت لهم معرفة بالأشعار الشعبية وأخبار الناس في هذه البلاد الشاسعة، ولم تتكون هذه المعرفة بيسر وسهولة؛ إذ كان من الشيخ عبدالله رحمه الله ترحال في حياة العرب القدماء كما كان منه ترحال على ظهور الإبل محصلاً للزكوات، فكان ينتقل مع صحبه من مورد إلى مورد فيلقى الناس ويسمعهم، ومن هنا عرف أسماء الأماكن وأسماء رمال هذه الجزيرة واستوعب كثيرًا من أشعار أهلها، أعاد الأستاذ من غير قصد قصة الجمع اللغوي الأول حين كان اللغويون يرحلون إلى البوادي ليجمعوا اللغة من أفواه أهلها نقية صافية لم تخالطها عجمة.
غادر الدرعية إلى الطائف في وقت كان الانتقال مغامرة والغياب فقدًا؛ ولكن غلبة طلب العلم والشغف به كان أقوى من ذلك كله، فمضى ليلتحق بدار التوحيد التي كان يشرف عليها بهجت البطار، وأما ما ثقفه بنفسه من العلوم فأمر قدرته له المجامع اللغوية التي كان عضوًا فيها، وأظهرته مكتبته التي أثرى بها الثقافة العربية. وإن يكن الثرى غيّب عنا ابن خميس فإن الأثير حفظ لنا صوت ابن خميس.
-
+
الرياض