قام البريطاني ريتشارد دوكينز بالاهتمام بفكرة «الإلحاد» وألف فيها كتباً مهمة كان أشهرها فيما أعرف كتابه «وهم الإله» (The God Delusion) الذي ألفه عام 2008م تقريباً، وفي وقت متقارب قام الأمريكي الإنجليزي بتأليف كتابه الذي يمكن ترجمته بعنوان «الإله ليس أكبر» (God is not Great)..
في هذين الكتابين وغيرهما من الظاهرة الغربية المعروفة في الاتجاه للإلحاد.. كان هؤلاء جميعاً مدفوعين بفكرة أن الدين وكل الأديان خرافة بشرية تخالف الحقائق العلمية وتخالف المنطق.. وأن الدين هو سبب الحروب وسبب الدماء وسبب المشكلات في الأرض وأن الدين هو الذي بشر بالجلاد عوضاً عن الجدال.. وبالحرب والقتال عوضاً عن الحب والتسامح.
في ذات الوقت، يقدمان فكرة تنتهي إلى أن الإلحاد هو «الحل» المنطقي بل والسياسي الذي يحمي البشرية من كل هذه الخرافات وأنه هو الاتجاه الوحيد الذي يحفظ الدماء والأعراض والحقوق.. وباختصار: هذان الكتابان يبشران بدين «الإلحاد» كدين مختلف.. وهما في النهاية يضمان «فكرة الإلحاد» للأديان..
حالما بدأ هذان المؤلفان وغيرهما بالتبشير بالإلحاد كحل عقدي.. وبدآ يقدمانه على أنه «الحقيقة» فهما هنا لا يقوضان فكرة الدين بل باختصار شديد يدعوان لدين جديد اسمه «الإلحاد» دين يحمل تماماً كل العناصر والطبيعة الدينية التي يذمانها في الأديان ويحمل الشراسة التي ما فتئ كلاهما إدانة وتحذيراً منها.
في حين أن هوتشينز مثلاً يرى أن الحل في الإلحاد عقدياً يرى أن من يقول «الحل في الإسلام» أو «في المسيحية» مثلاً مؤمن متشدد غير متسامح.. وفي هذا إذا طبقنا معايير هوتشينز نفسه فالتبشير بالإلحاد كحل عمل إيماني متشدد غير متسامح.
وإذا نظرنا للمقولة الهشة أن الأديان وحدها كانت سبب الحروب.. فسيبرر هوتشينز أن الإلحاد فكرة ترفض الإلزام والقتال.. فهل هذا دقيق؟
حسناً.. فهل كان الإلحاد بريئاً من الحروب والدماء والقتل..؟!. إن أبشع المجازر والحروب والدماء التي ارتكبها سياسيون في القرن العشرين مثلاً كانت ذات طابع ملحد كمجازر الشيوعيين ومقابرهم الجماعية وترحيلهم بل وممارستهم التي قدمت أبشع أشكال اللاتسامح مع الأديان السماوية في الوقت الذي تقدم فيه «ديناً» محدداً يحمل الطبيعة المحددة للدين التي يريدون نفيها كطبيعة التبشير وإرادة الحق..
وفي إحدى مقابلات دوكينز، وحينما قيل له بأن الإلحاد أيضاً ليس بريئاً.. كان رده بأن الملحد المقاتل والمحارب لا يدفعه إلحاده للقتل والحرب بل دوافع أخرى سياسية أو قومية أو أيدلوجية.. كما يقول. وهذا الجواب هو أسوأ ما يمكن أن تسمعه من أيدلوجي بغيض.. لأن كل أصحاب الأديان.. وكل المسلمين الذين قدم هوتشينز انتقاداً حاداً لدينهم «الدموي» كما يزعم.. يرون أن المسلم الذي يقاتل الجميع ويكره الجميع ويرفض الجميع له دوافع أخرى غير الدين إما سياسية أو أيدلوجية أو حزبية ولكنه كما يفعل الملحد المقاتل الشرس تماماً يستخدم دينه أو إلحاده لتبرير ذلك وتوظيفه في حربه.. فالحروب المقدسة التي تمارس الاعتداء عمل أيدلوجي يستخدمه الملحد تماماً كما يفعل المتدين..
لقد بدا هوتشينز تماماً متديناً متشدداً لا متسامحاً حينما ينفي كل الأديان ويرى أنها «باطل محض» ثم يدعو للحقيقة المطلقة والتي هي الإلحاد.. في الوقت الذي ينتقد على المتدينين امتلاكهم للحقيقة المطلقة.. وهكذا ينفي هو تشينز ودوكينز «حقائق الدين» المطلقة لمجرد أن يقدم «حقيقته المطلقة» هو في الحل والدين الذي يسميه «الإلحاد»!.
هو تماماً كمن ينتقد الخرافات المنسوبة للدين ثم يقدم خرافات أخرى ينسبها للعلم.. ولا يقبل التشكيك في علميتها ولا في دقتها.. فهو يحمل العقيدة (الدوغما) نفسها التي يحملها الآخر إلا أن المتدين يعرف عقيدتها ويسلم بها والملحد يكفر بما يسميه العقيدة ولكنه يقدم عقيدة بديلة تقدس العلم والتفلسف والنظريات البشرية وحدها.. بهذه الطريقة العقدية المجردة لا يختلف في المستوى العقدي دوكينز وهوتشينز مثلاً عن أي مؤمن بالأديان.. فلماذا يحارب هؤلاء التدين بكل أشكاله ويؤسسان لدين بديل هجين؟
في قراءة هذين العملين وغيرهما، ينتهي الإنسان إلى معرفة أن نسبة معينة من العقيدة والأيدلوجية هي نسبة ضرورية طبيعية في داخل كل إنسان بيد أنه قد تتلبس أشكالاً مختلفة وتذرع بحجج مختلفة وقد تبدو للناظر من بعيد أنها في غاية التباين.. ولكنها تنتهي إلى تحليل متقارب في أن الاعتقاد عمل مخلوق مع البشر.. ولكنه قد يستخدمه الناس لأغراض أيدلوجية وسياسية سيئة.. وفي هذا لا يختلف المؤمن عن الملحد.. ولكن: هل دين الإسلام هو كدين الإلحاد في منطقيته وتماسكه؟ {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} (19-22) سورة فاطر.
-
+
aalodah@hotmail.com
الولايات المتحدة