ليس صحيحاً ما يقال في بعض المؤلفات على استحياء أحياناً وفي أحيان أخرى بقدر من الامتعاض، أن الأنثروبولوجيا علم أوروبي (غربي) النشأة والأصل، استعاره العرب المعاصرون في إطار محاكاة الغرب وبشكلٍ أخص، محاكاة منجزاته وكشوفاته وفتوحاته في العلوم الإجتماعية. وبالتالي؛ فإن هذا العلم المُستعار منهجا وأدوات قد لا يكون نافعا لمجتمعاتنا، ما دام صادراً عن ثقافة قوية، هيمنت ودرست الثقافات الضعيفة في العالم، ولأغراض ذات طبيعة استشراقية- استعمارية وظيفتها النهائية فرض نمط من الهيمنة الثقافية.
الصحيح تاريخيا ً ومنهجياً، أن الانثروبولوجيا نشأ في الأصل علما ً عربيا ً لم تكن ثقافات ااعالم القديم تعرفه، حتى جاء به العرب في الإسلام، ووضع اسسه الأولى في العصر العباسي، إمام الأنثربولوجيا العربية الأصمعي، حين طاف في مضارب القبائل يجمع غريب الكلام، حتى قيل انه لم يترك شاردة وواردة عن حياتها وأشعارها وأنماط عيشها وسلوكها، إلا وأشار او لمح إليه أو قام بتدوينه وتسجيله، وإلى الدرجة التي بات فيها أمرا ً مألوفاً اليوم، أن نقرأ في مؤلفات المؤرخين والأدباء والفقهاء واللغويين، القدماء والجدد، إشارات لا حصر لها عن المصدر الاهم والأكثر نزاهة وثقة بين العلماء: الأصمعي، وما من مصدر تالٍ على عصر الأصمعي إلا وإشار إليه عرضا ً أو بالتفصيل.
إن الأنثروبولوجيا العربية الجديدة التي ندعو إلى إعلان قيامها، وتأسيسها والشروع في وضع خططها الدراسية، يجب أن تقوم على ثلاث مرتكزات كبرى هي: قواميس اللغة، والشعر الجاهلي، والمرويات الإخبارية. وليس من الممكن في ضوء هذا التصور، التعرّف إلى عالم العرب القديم بشكل منهجي، ومنظم، وعمل دراسي دؤوب، دون أعادة بناء فكرتنا عن قيمة وأهمية هذا الخزان اللغوي والشعري والإخباري الجبار الذي تركه لنا القدماء، ففي هذا الخزان العظيم، بمرتكزاته الثلاثة، ثمة معارف لم نتمكن بعد من فهمها بعمق كاف ٍ، وثقافة قوية لم يتسن لنا بعدُ التعرّف على طبيعة قوتها وسحرها الخفي، وطاقتها المتفرّدة على الاستمرار بقوة زخم مدهشة. وفي إطار التأسيس لمدرسة أنثروبولوجية عربية جديدة، وفي سياق بناء أسسها ومنهجها في البحث، يتوجب إثارة نقاش موضوعي، مختلف ومغاير للنقاش الذي أثاره طه حسين في مؤلفه الشهير(الشعر الجاهلي) يتصل هذه المرة، بطرح نظرية جريئة وجديدة حول الشعر الجاهلي الضائع والذي لم يصلنا منه إلا القليل، مبتدئين بطرح السؤال التالي: لماذا ضاع الشعرُ الجاهليُّ وكيف؟ وهل ضاع إلى الأبد حقاً، أم أننا لم نتمكن بعد من اسْتردادهِ بسبب جهلنا بأسرار اللَّهجات العروبيّة القديمة التي ُكتبَ بها؟ وأننا، إذا ما تعلمّنا هذه الأبجدية وفتشنا في النقوش والسجلات القديمة، قد نعثر، ومن ثمَّ قد نتمكن من استعادة هذا التراث الضخم؟ أم أن هذا العمل لا طائل من ورائه، لأن السجل الثقافي القديم برمته، كتِبَ أصلاً بلهجاتٍ عربية منقرضةٍ، يستحيل علينا تعلُّم أبجديتها أو الحصول بوساطتها على النصوص التي دوّن فيها الشعراء أشعارهم؟ أم تراهُ ضاع بضياعها ونسيانها؟ إنَّ اسم العرب من هذا المنظور، يتردد في التوراة بالصيغة ذاتها، كجماعة بشرية قوية. كما أن السجلات البابلية- الآشورية تذكر اسمهم وأسماء ملكاتهم في الجزيرة العربية وبادية الفرات حيث انتشرت ممالك صغيرة وقبائل قوية منذ نحو 2300 ق.م. وهذا ما تؤكده بدقة السجلات السومرية- الأكدية، وخصوصاً نقوش نارام سين الأكدي. لقد كانت القبائل العربية في طفولتها، أو ما يسمى عادة في كتب الإخباريين العرب الكلاسيكيين العرب العاربة البائدة، أي التي كفتّ عن الوجود في المسرح التاريخي، ومثلها مثل كل الجماعات القديمة، تمتلك نظاما ً ثقافيا ً خاصا ً بها، هو مزيج من التقاليد الاجتماعية والدينية واللغوية (اللهجات المحلية امحكيّة والطعام والزواج واللباس والسرد الأدبي للحكايات والأساطير والشعر). ولذلك، فمن المنطقي، أن يسجل شعراء وفرسان القبائل في الجزيرة العربية، وبلهجاتهم الخاصة التي ُعرف بعضها بلسان حمير ولسان مُضر، التاريخ الاجتماعي والثقافي قي هذه الرقعة الجغرافية الفريدة، وأنّ يصوّروا البطولات والمعارك والأحداث الجسّام والمآسي؛ بل وأن يسردوا شعريا ً، قصص الحب والمواعظ الدينية والأساطير بوصفها التاريخ الحقيقي. ومن المنطقي أيضاً، أن تندثر هذه اللهجات وتضيع مع زوال الجماعات التي كانت تتكلم بها. ولذلك، وبتلاشي اللهجات المحلية، وزوال الجماعات البشرية التي كانت تستخدمها، يكون قد تلاشى سجل شعري وثقافي ضخم، هو ذاته الذي عناه عمرو بن العلاء بقوله (إن ما وصلكم ليس سوى القليل منه، ولو جاءكم وافرا ً لجاءكم منه علم كثير). وهذا العلم الكثير الذي لم يصلنا، هو الذي دوّنه الشعراء والرواة في سجل شعري اختفى إلى الأبد. وعندما أثار طه حسين في كتابه «الشعر الجاهلي» مستنداً - حرفياً- إلى نظرية المستشرق الفرنسي مارجليوت، الشكوك في صحة نسبة هذا الشعر، فإن نقاشاً ساخناً ثار يومٍئذ ولم يهدأ حتى اللحظة، وانصبّ في أحيان كثيرة ٍعلى فكرةٍ زائفة تقول، أنَّ الشعر الجاهليّ تراث غير حقيقي وأنَّ من العبث البحث عن أصولهِ وجذوره ِفي اللَّهجات العروبية القديمة. ومنذئذِ أيضا ً، أصبحت دراسة الشعرُ الجاهلي برمتها تحت تأثير أفكار ونظريات المستشرقين الغربييّن وبعض تلامذتهم من العرب، خاضعة ً كلياً، لهواجسَ وأسئلة محرجة من هذا النوع، وهي بدت في مراتٍ كثيرة وكأنها بلا جواب. وفي مرات أخرآ، تبدى السؤال المركزي كما لو أنه السؤال نفسه: هل حقا أن الأنثروبولوجيا علم استعاره العرب من الغرب؟ أم أنه علم عربي لم نتمكن من تطويره؟
-
+
- هولندا