أفضى إلي الأستاذ الأديب عبد الله بن إدريس قبل ما يقرب من عشرة أعوام بكثير مما كان يضطرب به وجدانه، وما تختلج به نفسه من أفكار ورؤى، وما حفلت به حياته الأدبية والعملية من تجارب ومواقف رصدتها في برنامج « ضيف الليلة «الإذاعي، ووثقتها بالصورة في مكتبته الكبيرة العامرة، وسيصدر هذا الحديث ضمن أربعين حديثا لجملة مختارة من أدبائنا ومبدعينا في الجزء الثاني من كتاب « مواجهات « ليكون مرجعا للدارسين والباحثين.
لقد شعرت تلك الليلة الجميلة التي أكرمني فيها الأستاذ بضيافته واحتفائه وأبوته ولطفه الجم بما بدد مشاعر ضيق مستبدة كانت تكتنفني، وأضفى من روحه السمحة وتدفق ذكرياته وانثيال أفكاره وكشفه لي عن خبيئة نفسه ما جعلني أشعر بجو أسري خاص، أكده توافد أبنائه الطيبين زياد وسامي وإدريس، ثم دعوتهم لي لمشاركتهم العشاء العائلي!.
كنت سارحا في خيال بعيد بعد أن أدرت مقود سيارتي بعد ليلة من أمتع ليالي العمر، مستعيدا زي ابن إدريس باللباس الإفرنجي وهو في القاهرة في زيارة أدبية قبل أكثر من أربعين عاما ! حيث بدا لي في صوره التي توقفنا عندها طويلا شابا أنيقا متدفقا بروح تجديدية عصرية لم تكن متقاطعة أبدا مع ما هو عليه من تدين واستقامة، وما حصله في دراسته من علوم شرعية. وقلت أحدث نفسي: هذا جيل أصيل، أدرك بثاقب بصره ووعيه الذاتي وحسه العقلي ما يحسن وما لا يحسن، فلم تصبه لوثة عزلة أو ردة عن العصر، ولم يشعر بما يمنعه من التواصل مع ثقافات العصر؛ جيل رائد مؤسس، كان من الواجب أن تتخذه أجيال ما يسمى «الصحوة «نموذجا للاعتدال والتطلع إلى المدنية المتوازنة والتحضر المتئد.
وحين يتفضل قائد نهضتنا الملك عبد الله - حفظه الله -بمنح هذا الأديب الكبير وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى؛ فإن هذا تكريم وتأكيد من الملك نفسه على تأكيد معاني الاعتدال وتقدير قيم الإخلاص والمواطنة وحفظ اجتهاد العاملين والمنتجين والدائبين على إثراء حياتنا الأدبية والفكرية بما يزيدها ألقا وبريقا وحضورا وجمالا.
لاشك أن اختيار ابن إدريس ليكون شخصية العام في المهرجان الوطني للتراث والثقافة يمثل قمة الوفاء للعاملين، وغاية التقدير لمن حملوا مشعل الكلمة المضيئة النيرة المبشرة بالمستقبل خلال خمسة عقود من عمر النهضة الأدبية في بلادنا.
وسأقف عند ما يمكن أن يكون منعطفا فنيا وأدبيا في نتاج الأديب عبد الله بن إدريس، وما يشكل رؤية أو حكما نقديا على مسيرته الأدبية الطويلة التي نيفت على ستين عاما.
ولعل تقدير إدارة المهرجان لابن إدريس منطلقة من اعتبارات عدة؛ ربما كان من أبرزها:
- إصداره كتابه الرائد « شعراء نجد المعاصرون « عام 1380هـ وهو أول كتاب يعرف بالأدب في نجد، وبشعراء هذه المنطقة التي انصرف عنها الدارسون والباحثون سنين طويلة؛ نظرا لانصراف مراكز القيادة السياسية والثقافية في تاريخ الدولة العربية على امتدادها الطويل إلى عواصم القرار السياسي؛ كدمشق وبغداد والقاهرة وغيرها. وقد اتبع ابن إدريس في نظرته للشعر وللشعراء في نجد وبصفة مبكرة جدا المدرسة النقدية الأوربية الحديثة التي ترتكز على تقسيم الأدب إلى مدارس وتيارات؛ مما يدل على وعيه النقدي والثقافي المبكر وسعة اطلاعه، فذهب إلى أنه يمكن النظر إلى شعراء نجد وفق مدرستين هما: الرومانتيكية والواقعية، ثم عرف بخصائص التيارين، ملحقا بهما شعراءهما، ومعرفا بكل شاعر وموردا نماذج من شعره تدل بصورة واضحة على المدرسة التي ينتمي إليها. ولعل هذا الجهد النقدي الفتي الشاب قد أطلع القارئ العربي الذي يجهل تطورات الأدب في الجزيرة على نماذج مختارة بتذوق راق وبرؤية نقدية دقيقة على المستوى الإبداعي الذي لم يجد آنذاك سبيلا سهلا وميسرا للوصول إلى مراكز التنوير والريادة الثقافية في مصر وبيروت ودمشق.
لقد كان صدور كتاب « شعراء نجد المعاصرون « قبل نصف قرن من تاريخنا الأدبي نقلة نقدية مبكرة أخذت بأيدي الدارسين إلى تلمس مظاهر الشعر في هذه المنطقة وغيرها من أقاليم بلادنا وفق الرؤى النقدية الحديثة قبل أن تبدأ ثم تنمو وتتكاثر دراسات الأكاديميين بعد أن عادوا من بعثاتهم العلمية من مصر وأوربا وأمريكا وغيرها مع مطلع العقد الأخير من القرن الهجري الماضي.
ووفق هذه الرؤية لابد من أن ينظم هذا الكتاب النقدي في سلسلة الكتب الأولى المهمة المؤسسة للحركة الأدبية والنقدية في المملكة شأنه شأن « أدب الحجاز» أو صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازية شعرا ونثرا الذي جمعه محمد سرور الصبان عام 1343هـ، أو كما فعل في كتابه الثاني «المعرض « الذي صدر عام 1344هـ أو «وحي الصحراء « الذي جمعه: محمد سعيد عبد المقصود خوجة وعبد الله بالخير عام 1355هـ أو نفثات من أقلام الشباب الحجازي « الذي جمعه هاشم يوسف الزواوي وعلي حسن فدعق وعبد السلام طاهر الساسي عام 1355هـ أيضا. ولا يمكن أن يجد الباحث غنى عن العودة إلى هذه الكتب المؤسسة عند التأمل في تطور الحركة الأدبية، ومع الاطمئنان إلى أن الزمن الآن قد تجاوز ما قدمته هذه الكتب ومنها كتاب ابن إدريس من نصوص أو رؤى نقدية؛ إلا أننا سنظل في حالة أشبه ما تكون بالعتمة لو غفلنا عن الاطلاع والأخذ بما قدمه هؤلاء الرواد من جهد بحثي ونقدي مبكر.
- رئاسته تحرير جريدة « الدعوة «عام 1385هـ لمدة تسع سنين كانت من أغنى سني عمره في كتابة المقالة الأدبية الجريئة في فضاءاتها الاجتماعية والسياسية والدينية. وقد خرج ابن إدريس بالمقالة في جريدة الدعوة وقبله الأستاذ عبد الله بن خميس في مجلة الجزيرة الشهرية من مفهومها الأدبي النقدي العلمي الثقيل إلى أن تكون جزءا من الهم العام بلغة راقية وعاطفة مدفوعة بحس وطني صادق وعميق. وكانت فواتح هاتين المطبوعتين نبض الوعي الجديد المتنامي الذي بدأ يتشكل في منطقة نجد داعيا إلى النهضة وذاباً عن القيم الأصيلة ومحاربا مظاهر الضعف أو التراخي أو الانسلاخ والتقليد الفج.
ولابد لنا ألا نغفل في هذا السياق عن بدايات حمد الجاسر بخطى كانت أقرب إلى التعثر حين أصدر جريدته الشهرية « اليمامة « أواخر عام 1372هـ ثم استقامت وانتظمت بعد أن أسس مطابع الرياض عام 1374هـ، ثم تعاظم تأثيرها بعد أن صدرت من شهرية إلى أسبوعية فكانت الانطلاقة الأولى للمقالة المؤثرة في منطقة نجد ولمفهوم الصحافة المتنور اليقظ الذي دفع أدباء آخرين ملأتهم الحماسة الوطنية وشجعهم نجاح الجاسر، فصدرت الجزيرة عام 1379هـ للأستاذ عبد الله بن خميس وأحدثت من التأثير والتغيير بمقالات الفواتح ما أشعل تفكير الشباب إلى مزيد من العمل الصحافي والكتابي، وكان ابن إدريس يسهم هنا وهناك في المطبوعتين بما يعبر عن مكنوناته وتطلعه إلى النهوض والتقدم، حتى واتته الفرصة التي كان يتحينها عام 1385هـ حين كلف برئاسة تحرير جريدة الدعوة الأسبوعية فكانت الميدان المفتوح والفضاء الواسع الممتد لصولاته وجولاته الجريئة في فن المقالة، ليكمل بصورة تلقائية غير مقصودة ما بدأته اليمامة والجزيرة، وكأنها حلقات أدبية متصلة كل حلقة لها خصائصها وصفاتها وطعومها الفنية والجمالية والموضوعية.
ويتبادر إلى ذهن أي باحث في التاريخ الأدبي السعودي تساؤل عن صحة وجود غيرة أدبية محمودة بين أدباء إقليمي الحجاز ونجد؟!
واستطيع الإجابة بنعم. وهي غيرة محمودة دفعت النابهين في الإقليمين إلى التسابق لإظهار وإبراز أدب كل منطقة، ولا يغيب عن الدارس أسبقية إقليم الحجاز إلى تكوين شخصية أدبية والسعي المبكر من خلال صحيفتي أم القرى أولا ثم صوت الحجاز ثانيا إلى مواجهة كثير من التقاليد المعيقة، وحث الأدباء الشبان على جمع ما يكتبونه شعرا ونثرا لتقديمه مطبوعا للأدباء العرب؛ سعيا إلى إطرائهم أو الاعتراف بأنهم - في أسوأ الأحوال - مقبلون على نهضة أدبية كما فعل محمد حسين هيكل في مقدمته لكتاب « وحي الصحراء «أو عباس محمود العقاد مع أحمد عبد الغفور عطار، أو طه حسين مع حسن القرشي في مقدمته لأحد كتبه، أو طه حسين أيضاً في حديثه عن الأدب في الجزيرة العربية في كتابه « ألوان «، فكان أدباء الحجاز حريصين على مثل هذه الاعترافات وكلمات التشجيع من زعماء النهضة الأدبية في مصر والشام منتصف القرن الهجري الماضي وما بعده بسنوات.
والحق أن أدباء نجد الرواد وعلى الأخص منهم حمد الجاسر ثم ابن خميس ولاحقا ابن إدريس كانوا يرقبون النهضة في الحجاز ويرون أن منطقتهم لم تنل من النقاد والباحثين اهتماما يظهر قضاياها وهمومها وأدبها وتطلعات أبنائها ومثقفيها وأدبائها إلى أن يكون لهم نتاج إبداعي وإسهام في النهضة الأدبية التي بدأت ملامحها تتشكل وتنضج مع إنشاء معهد مكة العلمي ودار التوحيد ثم معهد الرياض العلمي ثم كلية الشريعة واللغة، ومن غير شك أن ابن إدريس اطلع على ما صنعه عبد السلام طاهر الساسي في كتابه الموسوم «شعراء الحجاز في العصر الحديث « الذي صدر عام 1370هـ عن دار الكتاب العربي بالقاهرة ووزعته مكتبة الثقافة بمكة للأخوين أحمد وصالح محمد جمال؛ وهو سعي جيد من الساسي لإفراد شعر منطقة الحجاز بالجمع والدراسة في بدء مرحلة جديدة أقرب إلى التخصص والأكاديمية منها إلى الجمع العشوائي للونين: الشعر والنثر دون دراسة ولا تقويم، فأراد ابن إدريس أن يقدم شعر وشعراء منطقة نجد بتصور جديد يميل إلى الحداثة في الدرس الأدبي للنص الشعري مع إلمامة تاريخية بتطور الأدب والشعر في هذه المنطقة وأثر الدعوة السلفية في ذلك، وما بدأ به الملك عبد العزيز من خطوات قوية ومؤثرة في طريق النهضة ثم ما تبعه من جهود ممتازة ومخلصة للملك سعود الذي صدر كتاب ابن إدريس في وقته عام 1380هـ، واللافت للذهن أن كتاب ابن إدريس صدر عن الدار نفسها التي صدر منها كتاب الساسي، والفارق الزمني بينهما عشر سنوات، الذي لاشك فيه أن ابن إدريس لم يفرغ أو يتهيأ ويضع خطة طموحة لجمع مادة كتابه ودرسها إلا بعد تخرجه من كلية الشريعة عام 1376هـ ممثلا مع زملائه المتخرجين - وهم عدد قليل جدا - الدفعة الأولى من طلبة هذه الكلية العريقة. فالسنوات الثلاث التالية للتخرج كانت فترة عمل واتصال وجمع وتأمل إلى أن صدر كتابه منتصف عام 1380هـ عن دار الكتاب العربي بالقاهرة، ولعل ابن إدريس قد أغرى بجهده النقدي المبكر هذا دارسين آخرين لإكمال ما بدأه من درس لأدب نجد؛ فبعد ما يقرب من عقد من الزمان على صدور « شعراء نجد المعاصرون « أصدر محمد بن سعد بن حسين كتابه «الأدب الحديث في نجد « عام 1390هـ ملما بالحركة الأدبية وعوامل النهضة ومدارس الشعر النجدي الحديثة وشيئا يسيرا عن أدب النثر، وهي السنة نفسها التي أصدر فيها الدكتور عبد الله المبارك دراسته الأكاديمية عن « أدب النثر المعاصر في شرقي الجزيرة العربية « كبداية لحقبة علمية جديدة يتسيد التأثير فيها أجيال متوالية من الدارسين الأكاديميين؛ بحيث تقل أو تتضاءل لاحقا الدراسات الانطباعية المجتهدة مع تخرج دارسي البعثات في الخارج.
وحين نتأمل نظرات ابن إدريس النقدية لكثير من النصوص نجد ما يلي:
أولاً: وقف الدارس عند مدرستين أو تيارين أدبيين؛ هما: الرومانتيكية، والواقعية، وكان تمثيله لمن ينتمي لهاتين المدرستين قليلا أو محدودا؛ على أن ما جمعه من شعر في قسم الكتاب الثاني لم يخل من هيمنة تيارات أدبية أخرى كالكلاسيكية والرمزية، ولم يكن عسيرا عليه أن يقدم فذلكة تاريخية علمية عن سمات المدرسة الأولى ويضرب لها مثلا بابن عثيمين مثلا، وسمات المدرسة الثانية ويضرب لها مثلا بناصر أبي حيمد أو محمد العامر الرميح.
ثانيا: تبينت في المقدمات التعريفية الموجزة عن الشعراء الأحكام السريعة المنبعثة من معرفة شخصية بالشاعر في أغلب الأحوال، كما هو الأمر عند حديثه عن الشاعر حمد الحجي مثلا، وكان من اليسير استنتاج هذه الأحكام النقدية التي بدت كأنها انطباعية سريعة من خلال التأمل التحليلي لشعر الشاعر.
ثالثا: خلت هذه الدراسة - ومصطلح دراسة هنا تجوز علمي - من التوقف حين النظر إلى النصوص الشعرية عند مظاهر الضعف أو القوة والجمال أو القبح والتأثر والاستقلال بالشخصية الإبداعية، بحيث وردت النصوص الشعرية التي جمعها المؤلف خلوا من تأمل نقدي يبين عن مواضع التميز أو مواطن الضعف في هذه النصوص، مما أوحى بأن جل غاية ابن إدريس جمع أكبر قدر من الشعر النجدي وحفظه من الضياع، أو مساعدة من لم يستطع نشر شعره من الشعراء في ذلك الزمن الذي سبق نشر الكتاب على التعريف بشعره وأدبه، أو أن من غايات كتاب ابن إدريس عرض هذه النصوص الشعرية المغمورة أو المنشورة في صحف خارجية للدارسين؛ حيث لم يذكر المؤلف من المصادر الشعرية المطبوعة لكتابه إلا ثلاثة دواوين فحسب؛ وهي: العقد الثمين في شعر ابن عثيمين، ووحي الحرمان لعبد الله الفيصل، وشعاع الأمل لصالح العثيمين.
- رئاسته نادي الرياض الأدبي مدة عشرين عاما، وهي من أغنى مراحل حياته العملية وأحفلها، فقد وضعته مسؤوليته في النادي إلى أن يواجه المتغيرات الفكرية والاجتماعية التي بدأت تتشكل في المجتمع السعودي وكان النادي كما هي الصحافة انعكاسا لذلك كله، والعشرون عاما التي قضاها في النادي كانت أيضاً فترات مرت ببعض ركود وحالات من الضعف في النشاط الثقافي وفي الإصدار؛ ربما لأن التجربة الثقافية في الأندية لم تنضج بعد، أو لأن العمل الثقافي - آنذاك - لم يكن منظما بالقدر الذي يؤهله للتوقد والتأثير.
على أنني - وكنت ممن عاتب ولام إدارة النادي في مرحلة ابن إدريس تلك - أجد أنه لم يكن من العدل توجيه الملامة له على ما يلمسه المراقب للنشاط الثقافي دون أن ينظر إلى الصورة العامة مكتملة ملامحها غير معزولة عن بعضها البعض، وهي الصورة المتواضعة التي ألحت على المعنيين من أصحاب القرار لتدارك ذلك الضعف بتجميع كل ما يتصل بالشأن الثقافي في إدارة واحدة هي وكالة الوزارة للشؤون الثقافية، التي نأمل أن تكون نواة أولى مبكرة لوزارة مستقلة للثقافة قريبا - إن شاء الله -.
هذا هو الأستاذ الرائد الذي يكتب بعفوية ماتعة سمحة كطبيعته الشفافة التي لاتواري ولا تداهن ولاتتخبأ. وهو الأستاذ الرائد في إقدامه على التعريف بأدبنا بجمع الاختيارات للمجاميع والأعداد الكثيرة من المبدعين كما جرت به همم الأدباء الرواد السابقين ممن أشغلهم التهميش والتجاهل على الخريطة الأدبية العربية، قبل أن نستطيع نحن أبناء الأجيال اللاحقة أن نقدم أنفسنا ونتاجاتنا مباشرة إلى إخواننا العرب من النقاد والدارسين منفردين دون أن يشاركنا أحد في ما نطبع أو ننشر.
وبقي أن أشير - وأنا واحد من المعنيين بفن المقالة الأدبية - إلى أن كتابه «عزف أقلام « لا يضم إلا القليل مما كتب في فن المقالة، وحري بمن يتصدى لدراسة أدبه النثري مراجعة أعداد جريدة الدعوة الأسبوعية التي صدرت عام 1385هـ، ويتتبع ما كتبه ابن إدريس من مقالات في هذه الجريدة طوال تسع سنين تصور توقد الشباب - آنذاك - وتطلعهم إلى البناء والتقدم، كما أنها لم تكن تخفي قلق طبقة كبيرة من المثقفين المحافظين من طغيان مظاهر الحياة الحديثة وخوفهم من أن تسلب من الأجيال الجديدة الناشئة قيمهم العربية الأصيلة، وقد ظهرت هذه الروح الدينية الدفاعية قوية مواجهة إلى جانب الروح الأخرى المتطلعة إلى التقدم والنهوض في كتابات ابن خميس وابن إدريس وزيد بن فياض وغيرهم من مجايليهم.
لقد واصل ابن إدريس معركته الكتابية المقالية طوال رئاسته جريدة الدعوة التي زادت على تسع سنين، سعى باجتهاده الخاص إلى أن يخرج بمفهوم المجلة الدعوية المحافظة التي تنتمي إلى المفتي والمؤسسة الدينية من الرداء الديني المتخصص إلى أن تكون شاملة تعالج شؤون الحياة الاجتماعية وتلبي اهتمامات الشباب والأسرة، فخصص صفحة أو أكثر للرياضة وللمطبخ ولقضايا المجتمع والزواج ومشكلات الحياة العامة، كما أنه لم يعزل جريدة الدعوة من أن تتماس وبصورة صريحة ومواجهة أحيانا مع القضايا القومية والسياسية، وما كانت تضطرب به المنطقة العربية والإسلامية آنذاك من هموم وأحداث.
وحري بمن يتصدى لدرس أدب ابن إدريس النثري ألا يغفل أيضاً عما كتبه بعد تنحيه عن رئاسة تحرير « الدعوة « في صحف ومطبوعات أخرى كثيرة، مثل الرياض، والجزيرة، واليمامة وغيرها، ونجد في مجمل الصورة العامة للمقالة عند ابن إدريس سمات الكتابية النثرية عند أبرز رموز مرحلة الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي؛ مثل: قوة الأسلوب، وجزالة العبارة، وتماسك البناء، وخلوه من الأخطاء أو الخطل أو الضعف، وتحري النماذج الممتازة من أساليب كتاب عصر النهضة الأدبية في مصر على الأخص؛ كطه حسين والزيات والمازني والرافعي وغيرهم، وما يحدث هناك من مناوشات ومعارك أدبية وخصومات ترفع من مبيعات الصحف وتدفع أبناء الجزيرة وناشئيها إلى تتبع سخونة ذلك التوهج الأدبي بإعجاب لا يخلو من محاولة احتذاء وتقليد.
أما شعره فلن يغني هذا المقام الخاطف السريع في أن نفيه حقه من الدرس فلذلك موضع آخر - بإذن الله -؛ ولكنني لمست في بعض ما أورد لنفسه من شعر في كتابه « شعراء نجد المعاصرون «روحا تجديدية فنية تحتذي المدرسة الرومانسية الحديثة في التخفف من غلظة بناء العمود الشعري القديم وتماسكه، وغلبة الروح الشفيفة العذبة عند شعراء المهجر وبعض شعراء الرومانس مثل: على محمود طه وإبراهيم ناجي وغيرهما، وهي المدرسة الفنية التي يبدو أن الشاعر ابن إدريس لم يجد نفسه فيها؛ فعاد وبكثرة كاثرة من شعره إلى البناء التقليدي من حيث قوة اللفظة وتماسك القصيدة وتحاشي الخروج على المعمار القديم.
ولابد أن نزجي التحية والشكر لإدارة هذا المهرجان على احتفائها بالمبدعين والعاملين والمجتهدين، ولعل هذا التكريم السامي من لدن خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - لأديبنا الكبير عبد الله بن إدريس في حفل الافتتاح الناجح المميز للمهرجان الوطني في دورته الخامسة والعشرين لا ينسينا أبدا ما نتطلع إليه في القريب العاجل من عودة منتظرة لجائزة الدولة التقديرية في الآداب والعلوم والفنون التي أعلن قبل أشهر قليلة عن موافقة المقام السامي على عودتها مرة أخرى بنظام جديد يواكب المستجدات في حياتنا الثقافية والأدبية؛ مما سيدفع بالحركة الثقافية والأدبية إلى الأمام ويوقد الهمم ويشجع على مزيد من العمل والإبداع والإضافة.
ksa-7007@hotmail.com
الرياض