لم يكن اسمه عابرا؛ فقد استقر في ذهن الصبي الذي تخرج في عزيزية حائل، ووعى أحاديث والده المدرس في معهدها العلمي - حفظه الله - حين كانوا (هو وزملاؤه) يتبادلون حكاياتهم عن طلابهم، واستقرت في ذهنه صورة حافزة لفتى يقال له: (جار الله الجباري)، ذي ثقافة وحضور على الرغم من صغر سنه، وبقي مما اختزنه موقف كانوا يتندرون به؛ حين وزع مدرس أسئلة اختبار مادة على طلبة صف مختلف، فأبلغه الطلبة بخطئه فقال: إن البقر تشابه علينا؛ ليجيب الجباري من فوره: إن البقر لا تتشابه إلا على البقر!
رد قاس لكنه ذكي وبدهي، ولأن أساتذة ذلك الزمن آباء ومربون قبل أن يكونوا موظفين مجبرين فقد تجاوزوا دلالات الجملة السلبية إلى آفاقها الدلالية المشيرة إلى هذا الفتى الموهوب، وتوقعوا له مستقبلا مشرقا، وكان يمكن أن يكون لولا مفاصل الحياة وإرادة الله التي اختارته لجواره بعد معاناة طويلة ؛فرحمه الله.
ظل اسم (جار الله) مهما لديه، حين ساكن صديقا له من حائل في أثناء الدراسة الجامعية، وكان له أخ اسمه (جار الله)، ثم بدأ بقراءة اسم جديد في الصحافة الثقافية اسمه ( جار الله الحميد)؛ فوجد فيه ملامح مما اختزنته ذاكرته حول جار الله الجباري الذي تعرف عليه في وقت قريب من وقت وفاته، وسعى حينها لمعرفة أبي يوسف الحميد الذي جمع في اسمه جميلين؛ ذاك الفتى، ومعلمه في المدرسة العزيزية، ولعل اسمه (صالح الحميد)؛ فعليه سلام الله حيثما كان.
اقترب من دائرة المبدع جار الله الحميد قبل بضع عشرة سنة حين استكتبه للملحق الثقافي في الجزيرة؛ فكان منتظما في التوقيت، أنيقا في العبارة، ذا خط جميل، وموقف ثابت، ثم قرر - بعد سنوات - أن يصبح كاتبا اجتماعيا في الجزيرة ذاتها فانحسر التواصل الدوري، ثم غادر الجزيرة إلى صحف أخرى، وهكذا المبدع لا يستقر فهو كما راكب (قَلِق) المتنبي الذي تحركه الريح يمينا وشمالا.
سمّوه « عراب القصة القصيرة السعودية «، والمشهد سيظل محتفيا بأحزان عشبته البرية التي تعد خطا بمسار أثر في بنية القصة القصيرة دون أن نجزم بالأول والأفضل والأجمل وبقية «فرقة أفعل»؛ فلكل إضافته، وهو ما جعل أبا يوسف يؤكد أن» التاريخ لا يؤمن بمنهج التغافل»، وقد صدق، فبعد سنوات طويلة - حين نكون تحت الأرض - ستُقرأ المراحل بمعزل عن أبواق الإعلام ورايات المصالح ،وسياسة « هذا ما نبيه لا تنشروا عنه شيئا «، كما حال بعض المساكين ممن بلغوا من الكبر عتيا أو من الضحالة عتها، ونسوا ان التاريخ الثقافي أمين على ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
جار الله الحميد (حائل 1954م) نموذج للمبدع الذي أضعناه أو نسيناه في ظل عدم وجود جهة ترعى المبرزين فيهم، وأكثرهم غير مهيئين للعمل المنتظم، وربما لو تهيأ له جو يضع عنه مؤونة الركض خلف قوت أولاده لرأينا من صاحب « أحزان عشبة برية وظلال رجال هاربين ورائحة المدن « إبداعا نقدمه مثلما نتقدم به؛ فلعل وزارة الثقافة تضع نظاما يتوجه لتفريغ المبدعين المنتجين.
التميز رقم لا يتكرر
ibrturkia@gmail.com