يصف القاص محمد صالح القرعاوي في مجموعته القصصية الجديدة «شرخ في ذاكرة الحقيقية» يصف حالة الإنسان الذي يعاني أهوال ويكابد مرارات الحياة، حيث برع في القصة الأولى من المجموعة «بعد أفول الشمس» في محاولاته الاستقصائية عن كنه هذا العناء الذي تشعر فيه المرأة جراء شفافيتها الوجدانية وحساسيتها المفرطة حينما استشعرت بحدس إنساني شديد أن نهاية زوجها باتت قريبة جداً، نظراً لما تختزنه من شعور مفرط بالفقد.
القرعاوي اختط لقصته هذه أبعاداً فكرية، وصوراً واقعية وأخرى تخيلية حبك فيها المشاهد الثلاثة: صورة البحر والغروب كنهاية محتملة والموت الذي جاء على نحو مباغت رغم أنها ظلت تنتظره في كل لحظة وهي لا تعرف على من سيقع، ومن سيكون الضحية إلا أنها لشدة تعلقها بزوجها (عادل) في الغربة ظلت تهجس بقرب النهاية المليئة بلواعج البعداء والفقد ومرارة الألم.
في قصة «شرخ في ذاكرة الحقيقة» التي حملت اسم المجموعة يسترعي اهتمام القارئ حالة من الصراع الأبدي بين الحقيقة والوهم، حيث تتنازع ذاكرة الرجل المهموم بشؤون أطفاله الكثير من الصور التي تعد في الغالب الأعم حالة من التداخل في ذهن الشخصية المحورية، إذ لم يعد يميز بين ما هو وهم سادر وبين ما هو حقيقة ماثلة للعيان، لتأخذ القصة في مجملها هيئة لوحة ترصد المشاهد المتناقضة في ذهن هذا الرجل الكادح.
تتوالى قصص هذه المجموعة على هذا النحو الاستقصائي لحالة الوجع الإنساني ليأتي بطل القصة هذه المرة شارد الذهن متعباً من سهر العمر وشقاء الأيام حتى يرسم ملامح ما بعد فراقه للحياة، حينما تكون ظاهرة الحزن لديه هي حالة من هذيان غير مجدٍ ينتهي عادة بعجز تام من هذا الرجل البسيط عن مجاراة من حوله من شخوص يتمترسون خلف حكايات عابرة لا نفع فيها.
يستدرج القاص القرعاوي صور الموت مرة أخرى في قصة «رحلة في كوامن الزمن» بغية أن تتساوق فكرة البقاء مع الأحياء حتى وإن كان في عداد الموتى على نحو ما ذكره في القصة: «لكم الله يا عيال المرحوم» المجموعة (ص34).
حتى وإن لم يكن الحضور مادياً محسوساً في فضاء السرد إلا أنه يظل رؤية عامة تتناول جوانب كثيرة من موت المعاني لا سيما لدى إنسان حالم مغرم في البحث عن حلول جميلة لمعاناته النفسية والاجتماعية التعسة على نحو بطل هذه القصة «رحلة في كوامن الزمن».
قصة «رجع في زمن الأنين» صورة أخرى من صور الموت المجازي أو المعنوي للمشاعر الإنسانية.. تلك التي تكونت بين تلك المرأة السبعينية وأبنائها الذين باتوا مرتهنين لثقافة جديدة ولعالم أشد اغتراباً عنها منذ قبل، حتى لم يعد لبطلة هذه القصة قدرة أن توقظ أحداً منهم لصلاة الفجر رغم استعانتهم بالتنبيه عبر التقنية الحديثة عن دخول الأوقات لكن هيهات فقد ظلت المرأة تداوم قرعها للأبواب رغبة في إبراء الذمة فحسب على حد ما ذكره الكاتب القرعاوي في قصته.
تعالج هذه القصص الهم الاجتماعي المبني دائماً على صور المفارقات العجيبة في بناء العلاقات الإنسانية بين البشر، فقد سعى القاص إلى استنباط حاجة المجتمع إلى مزيد من كشف الذات والوقوف على أخطر الممارسات الاجتماعية بغية كشفها وعلاجها إن أمكن في محاولة للوصول إلى ذروة العلاج لعله يفيد ويحقق الهدف المنشود على نحو «خالد» بطل قصة الهدية.
يفتش القرعاوي كثيراً مفارقات الحياة ليقف عن أكثرها تأثيراً على القارئ، وأقربها للوجدان رغبة منه في سبر أغوار حياة النص الإبداعي الذي يرى فيه وفق هذه الرؤية أن يكون ملامساً لهموم الناس البسطاء، وألا يكون مغرقاً في البناء اللفظي الذي قد يبعد القارئ، أو ينفر المتلقي منه، فالتعمية والإغراق في رسم السرد قد يفسد جو الحكاية، وهذا ما جعل الكاتب يتبسط في سرد فكرته من خلال الحكاية بغية إيصال الحقيقة التي يرى أن القارئ بحاجة لها ولمثلها من هذه الصور الحسية المعبرة لعلها تحقق الهدف المنشود.
لقد اتكأت قصص مجموعة محمد القرعاوي على الحكاية بوصفها حاضناً مهماً لقضية الإنسان مع مجتمعه لا سيما حينما يكون متطلعاً لبناء خطاب إنساني جميل يحقق معادلة الجمال والإنسان بوصفهما قطبين هامين تقوم عليهما فعاليات الحياة في هذه المناجزة التأملية للذاكرة التي تتوارد على نحو أليم يفيض مشاعر راعفة وصوراً غاية في الألم بغية التأثير على القارئ.
* * *
إشارة:
شرخ في ذاكرة الحقيقة (قصص)
محمد صالح القرعاوي
دار المفردات - الرياض - الطبعة الأولى 1430هـ
تقع المجموعة في نحو (80صفحة) من القطع المتوسط