Culture Magazine Thursday  08/04/2010 G Issue 305
سرد
الخميس 23 ,ربيع الآخر 1431   العدد  305
 
قصة
حمار بثلاث دوائر حمراء
عامر ملكاوي

لم تفسد فرحتي بالإجازة تلك الأرقام الثلاثة التي خُطّت حولها دوائر باللون الأحمر على شهادتي المدرسية، معلنة رسوبي في التاريخ والعلوم والرياضيات. جلّ ما كان يشغلني في تلك اللحظة هو مواجهة الأهل بذلك، فقد كنت على علم مؤكد بكل العبارات التي ستقال والشتائم التي ستنهال عليّ، ككل المرات السابقة.

غادرت الصف بينما كان بعض التلاميذ يتبادلون شهاداتهم، محاولين معرفة الأول علينا في الدرجة المدرسية ..!

عند باب المدرسة، كان الجو يشي بأن العطلة ستكون بغاية المتعة، فالبرد الشديد ورذاذ المطر الذي ينزل بخفة، لم يثنِ الأولاد عن التجمهر أمام المدرسة، وقد جمعوا كتبهم، وأشعلوا النار فيها. ألقيت ما في حوزتي من كتب في دائرة النار، وجلست إليهم، حولها، فقد كانت ملاذا ملائما لنا من البرد ومنصة مناسبة لإطلاق التعليقات على من كانوا يترفعون عن مخالطتنا من التلاميذ.

لكن ما نعمنا به من دفء لم يدم طويلا،أحد الأساتذة لفتته ألسنة اللهب، القريبة من سور المدرسة، وبعد أن عرف بأمرنا، كانت عصاه خير من يفرق الجمع. اتفقنا على اللقاء عصرا، وذهب كل منا في شأنه.

في الطريق إلى البيت كانت كل الأشياء ساكنة، أشجار السرو والصنوبر المتشابكة على طول الطريق، كانت تبدو وكأنها خُلقت للتو، كان اخضرارها مختلفا عن ذلك الذي يلبسها في الفصول الأخرى، كان اللون أخضر حقيقيا.

اقتربت من البيت، فتوارت كل الألوان من مخيلتي، لم أعد أرَ سوى لون أحمر وثلاثة أرقام.

رأسها الذي أطل من نافذة المطبخ بشكل مضحك، فور وصولي «حوش» بيتنا، سلبني التمهيد والتبرير أو حتى التفكير في ذلك:

- ها، هل هناك أخبار جيدة هذه المرة؟ سألت أمي من فورها.

- كل التلاميذ يبكون، اخرجي وشاهدي بنفسك. أجبتها بحزن اعتادت ألا تصدقه.

- وكم من المواد حملت هذه المرة أيها الغبي؟ هذا ما تعلمته من الحمير، القدرة على حمل الفشل، ليس الذنب ذنبك، إنه ذنبي أنا، فكيف لي أن أنتظر خبرا سعيدا من حمار مثلك.

تجاهلت شتائمها، وأظهرتُ انشغالي بتثبيت «المزراب» في الجدار،وهذا ما أغاضها ليرتفع صراخها أكثر:

- لماذا لا تجيب، هل أصابك الخرس فوق الغباء.

بملل لم استطع كبح جماحه في داخلي، أجبتها على الفور:

- منذ متى كانت الحمير تتكلم ؟؟

بعدها لم أسمع صوتها أبدا، كل ما كنت أسمعه، صوت ارتطام قدمي العَجِلتين بالأرض، وحفيف أجسام تتطاير عن يميني وعن شمالي، دون أن أتمكن من تحديد هويتها.

منعها من مواصلة التصويب لهاثها الشديد، فاستنجدتْ بصوتها الحاد مواصلة صراخها:

- أنت أجبن من أن تبيت في الحارات ... سأكون بانتظارك يا ملعون...!

انتهت المواجهة، لكن الثمن كان باهظا، هناك خمس ساعات من الفراغ، تفصلني عن العصر، لملاقاة الأولاد. خمس ساعات من البرد والضجر، فكرت في أن استبدلتها بأخرى من الدفء وكثير من العناية. فما إن اقتحمت عليهم قيلولة الظهيرة، حتى قابلتني الجدة بالترحيب، فيما حاول جدي تمييز الزائر.

عَلَت ضحكات جدي فور سماعه صوتي، وبدأ يردد وقد بدا عليه الانفراج:

- ها قد جاء شيطاننا الصغير، اقترب مني يا بني.

رفع عنه اللحاف، ودعاني كي أتمدّد إلى جانبه. أمسك بيديّ، وبدأ يحكهما ضاحكا:

- ألا يمنعك البرد من اللعب في الحارات أيها الشيطان الحبيب. ملمس يديك كملمس الأفعى، لقد أنبت البرد في يديك حراشف بدلا من الجلد. قالها بحنو، وختم بضحكة هادئة.

- فلتدع الصبي وشأنه، قالت جدتي وهي تحمل كيس البطاطا، سألت إن كنتُ سأكتفي بحبة واحدة تنضج على مهلها في منقل الحطب، بينما نتجاذب أطراف الحديث.

سرني أنهما لم يأتيا على ذكر المدرسة والنتيجة، ولتلافي ذلك، طلبت من جدي أن يروي لي قصته مع اليهودي، التي قصها علي مرات عديدة من قبل. بدوره لم يتوان عن ذلك، فشرع يسردها بكل تفاصيلها التي كنت أحفظها جيدا من كثر تردادها.

- منذ خلقت وأنا أراك تجلس أمام النافذة يا جدي، لماذا اخترت هذا الموقع بالتحديد.

جاء سؤالي مرافقا للمشهد الذي يسترسل فيه جدي كثيرا، فآثر أن يكمل الحكاية على أن يجيب على سؤالي.

- ضربته ومن معي من الرفاق على مرأى من المارة. قالها بحزم.

- لماذا تجلس دوما أمام النافذة.

- كي أرى النور.

- لكن النور لا يأتي من النافذة، إنه يأتي من السماء. في طريقي إلى هنا كان النور يملأ القرية.قطعت علينا جدتي الحديث داعية إيانا إلى الغداء.

عقب غداء دسم شهي، عدت وجدي كي نتموضع في دفء الفراش. استأنفنا الحديث، حتى أعلن المؤذن دخول وقت العصر. طلب جدي من جدتي أن تعدّ له ماء الوضوء، سبقتها إلى «خابية» الماء، ملأت طنجرة التسخين ثم وضعتها فوق جمر المنقل.

استأذنتهما بالمغادرة، رد جدي بالدعاء، فيما أخرجت جدتي حبة البطاطا من المنقل، وضعتها في كيس ورقي وقدمتها لي رابتة داعية:

- هل نسيتها. كن بحفظ الله يا ولدي، اذهب إلى البيت مباشرة، فالجو شديد البرودة.

لم يكن البيت مقصدي التالي، بل ساحة اللعب في الحارة.هناك موعدي مع الأولاد. لم أسلك الطرق نفسها في العودة، اخترت طريق الوادي. وهناك فوق التّلة وعلى مقربة من مشارف الحارة، رُبط حمار بشجرة سرو، كنت أعرف لمن تعود ملكيته. على عجل، فككت الحمار، ركبته حتى وصلت الساحة. ربطته «بخرزة» البئر، وبدأت أضربه بعصاي، فشرع يرفس. عندها ضحكت، تذكرت كلام أمي عن الحمير. فهل كانت ستعتقد أنني أتعلم من الحمير غير حمل الفشل، لو رأت ما أصنع مع ذلك الحمار؟

تابعت عبثي معه، حتى توافد الأصدقاء متعاقبين، لنبدأ لعبتنا المفضّلة، كنا نسميها لعبة الفروسية. يصعد أحدنا على ظهر الحمار، ثم يبدأ الآخرون ضربه بعصيّهم، والفارس هو من يحتمل مقاومة الحمار أطول مدة.

في غضون ذلك، سمعنا هدير سيارة تدخل الحارة، ما كان نادر الحدوث وقتها، وإذا بها تتوقف في الساحة. كانت العصي لازالت تتحرش بالحمار، بينما يحاول الفارس الصمود.

عندما نزلتْ من السيارة، تخلى الجميع عن عصيهم، ترجّل الفارس، ابتعدنا عن مكان الحمار، وقد تحلقت أعيننا بها متجمدين، فبدونا كأصنام تشابهت.

كانت في عمرنا، شديدة الجمال، كثيرة الصمت، تكتفي بمراقبة لعبنا دون أن تشاركنا فيه. تقضي إجازاتها في بيت جدها في القرية، وكل ما عرفناه عنها، هو أنها تعيش في المدينة. عندما كانت تأتي كل إجازة، كنا نتسابق في لفت انتباهها، لكنها كانت دوما تمتنع عن مشاركتنا اللعب، وتخفي إعجابها بأي منا.

دخلتْ منزل جدها، وما هي إلا دقائق، حتى خرجت بصحبة ابن عمها، تحمل قطة ربطت في أقدامها أغطية قوارير بلاستيكية. وضعتها على أرض الشارع، فحاولت القطة الهرب،لكن الأغطية المثبتة في أقدامها تسببت في زحلقتها، ومنعتها من ذلك. ما جعل الصغيرة تغشى ضحكا، ونحن بدورنا كان لا بد لنا من مشاركتها الابتهاج، رغم قدم تلك الطريقة بالنسبة لنا.

ما قامت به، كان بالنسبة لنا فرصة لجلب الانتباه. ذهب أحدهم واقتاد الحمار قريبا من بيت جدها، بينما وجدتُّ أخيرا، كيسا أسودا، وضعته في رأس الحمار. لنبدأ ضربه مجددا.

سرنا على خطى الحمار، الذي ما إن تقدم قليلا حتى اصطدم بأحد الجدران أو الأشجار الواقعة في طريقه. وفي مقدمتنا، لحقت هي بعصاها الحمار، وكان صوت ضحكنا يعلو أي صوت في الحارة.

قادنا الحمار إلى مشارف الوادي، ومازال الضحك والزعيق يعلو فوق النهيق، حتى اختار الجميع الصمت فجأة، فتركنا ما بأيدينا، وعم السكون المكان.

فتحت الغيوم لأشعة الشمس نافذة، أطلت عبرها على التلة، حيث وقفنا مشدوهين، فيما غرز قوس قزح قدماه في الوادي تحتنا، وأطل علينا من خلاله «جبل الشيخ» شامخا يعانق السماء، يعتلي الأفق أمامنا، وقد كساه الثلج بلحية بيضاء ناصعة، فبدا وكأنه شيخ طاعن في الجمال، يسرق بهاءه لب القلوب.

كسرت جمود اللحظة، رفسات الحمار، وقد غفلنا عنه خلفنا، فأصاب من أصاب، ومضى في طريقه نحو الوادي. وقتها تنبهنا إلى وجود مجنون القرية قريبا منا، يتبول على العشب، ثم يبتعد قليلا فيعود راكضا، ليتزحلق على العشب المبلول، ضاحكا، غير آبه لوجودنا.

ضحكنا منه كثيرا، وتابعنا النظر. كان الحمار يعدو مسرعا أمامنا، ولم يزل الكيس في رأسه، حيث بدا وكأنه ماض للعبور من بوابة قوس قزح، في طريقه إلى جبل الشيخ.

اختفى الحمار عن نواظرنا، وبقي جبل الشيخ يطل علينا من بوابة قوس قزح، فيما كنت أفكر حينها وأنا أعود إلى البيت بما ينتظرني بعد تلك التهديدات التي أطلقتها أمي عن كوني حمارا جاء بشهادة مدرسية عليها ثلاث دوائر حمراء..!

/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة