ممتعٌ جداً أن تقرأ كتاباً ينسيك تماماً أنك تقرأ، وأنه كتاب..!
هو في الأصل سلسلة من السيناريوهات لأفلام وثائقية، كتبها (أنطونيو بلتران هرنانديز) وهو سيناريست ومخرج من الولايات المكسيكية المتحدة - أو المكسيك (المستقلة عن إسبانيا عام 1810 ولا تزال لغتها الرسمية إسبانية)، له من الأفلام السينمائية: لا تذهب وحيداً إلى الجبال، الهبوط إلى جوف الأرض، آن برنر في كينيا، وغيرها..
غير أن كتابه (إمبراطورية الحرية) الصادر في طبعته العربية بالتعاون بين منشورات آنيب بالجزائر ودار الفارابي بلبنان عام 2004، وبترجمة أحمد توفيق حيدر، هو العمل الذي أخذ منه مجهوداً جباراً على المستويات المعرفية كافة حتى يظهر بصورته المتعمقة في أغمض تفاصيل الأزمنة والأمكنة التي تشكّلت منها ما أسماها (إمبراطورية الحرية) ويعني بها الولايات المتحدة الأمريكية..
يقول المؤلف في إهداء الطبعة العربية:
(مما لا شك فيه أن هذه الطبعة العربية ليست مهداة إلى الذين سقطوا في نيويورك ذات حادي عشر من سبتمبر، أعتقد أن هؤلاء كرمت ذكراهم في غير مكان من العالم، وثمة إهداءات انتهازية خصصت لهم. قد يكون من الأجدر أن أهديها إلى الذين سقطوا تحت ضربات طيران الولايات المتحدة وحلفائها ولا يحظون بأي تكريم، غير أن ذلك لن يكون أقل انتهازية)!
ثم يختم إهداءه بأنه يمتنع عن إهداء هذه الطبعة لأحد!
وفي مقدمة الطبعة العربية، يقول المؤلف أنطونيو بلتران:
(أعزائي القراء العرب، سوف تقرؤون، قبل قراء لغتي الأم (الإسبانية)، قصة هذه المأساة المضحكة. في البداية عزّ علي أن يجهلني شعبي بالذات إلى هذه الدرجة، على الرغم من الجهود التي بذلتها في المكسيك لنشر كتابي.. بينما قرر ناشرٌ عربيّ، من دون أي مسعى من جانبي، أن يترجم هذا الكتاب لينشره لكم باللغة العربية.. ولكنني الآن امتصصتُ صدمتي، لأنني بدأتُ أفهم أننا حقيقة إخوة. نحن الأمريكيين ورثنا عنكم، عبر إسبانيا، بعضاً من ملامح طبعنا وطريقتنا في الغناء وحتى الكثير من الكلمات المستعملة في لغتنا. الفارق الأساسي الوحيد بيننا هو أنكم تعيشون حاضراً ما عاشته قارتنا الأمريكية سابقاً - طيلة القرنين المنصرمين..)..
ويستفيض المؤلف في مقدمته شارحاً أدق التفاصيل التي قفزت بالقارة الأمريكية لتكون على ما هي عليه الآن..
الواقع أنني كنتُ قد استمتعتُ ببعض فصول هذا الكتاب المثير، قبل أعوام عدة، ثم انقطعتُ عن إكماله فخُيّل لي أنّ ما استقيته من معلومات وأفكار وصور حية كان من خلال مشاهدتي لأفلام وثائقية، على إحدى الشاشات العربية، ولم أنتبه أنني كنتُ أقرأ في كتابٍ يخلو من الصور (عدا بعض الخرائط غير الملونة!) إلاّ حينما وقعت في يدي - بالمصادفة - مجدداً، نسخة من هذا الكتاب، متوسط الحجم (336 صفحة) ولكنه غني بما يكفي ويغني عن عشرات المراجع.. وربما أجمل ما فيه أنه صيغ بطريقة أحسبها فريدة في حقلها، حتى تكاد تختلط الحقول المعرفية؛ فلم أعد أدري كيف يتم تصنيف هذا الكتاب على اعتباره سياسياً أو تاريخياً، بينما هو يحمل كلّ سمات السرد القصصي والروائي والسينمائي والمسرحي.. ويدخل بك في محاورات (افتراضية) بصياغة كوميدية حيناً ودرامية أحياناً، وينتهج بين كلّ ذلك لغة (المقالة الثقافية) بطابع أدبي سلس، حتى أنه يصلح أن يكون (سيرة) لإمبراطورية الحرية، أو رحلة إليها تعبر مختلف الأزمنة المارّة بها والحدود الواقعية والوهمية التي استقلت بها عن العالم..!
يقول في السطور الأخيرة من الكتاب:
(لقد تعلمتُ أمراً: وهو أن (الحقيقة) تتقدم وحدها، ضعيفة، مُهاجمة دائماً من آلاف الأعداء. بينما (الكذبة)، بالعكس، لديها دائماً الكثير من الشركاء والمناصرين..)!
وأنا أقول: هو كتابٌ يقول الحقائق ولا يغفل الأكاذيب، وهذا من أجمل ما فيه.. ولكنّ الأجمل حتماً هو الأسلوب الجامع لكلّ التقنيات الكتابية - العلمية والإبداعية..
ولعلّ من يقرأ الكتاب سيجد بين فصوله - المقسمة إلى قسمين: القسم الأول (أميركا للأميركيين) من ستة فصول، والقسم الثاني (العالم في الولايات المتحدة) من ثلاثة فصول - إجاباتٍ (مضحكة مبكية) عن السؤال الصعب والغريب الذي افتتح به المؤلف كتابه في المقدمة: لماذا فشلتْ جهوده لنشر هذا الكتاب بلغته الأصلية، بينما بادر ناشرٌ عربي لترجمته ونشره باللغة العربية..؟!
جديرٌ بالذكر أن الترجمة العربية للكتاب تمت نقلاً عن الفرنسية (وليس المكسيكية أو الإسبانية - لغته الأساس) وقد نُشرتْ طبعته الأولى عام 2002، على نفقة المؤلف، في مدينة النور (باريس)!
f-a-akram@maktoob.com
بيروت