يعيش الإنسان ضمن الوجود.. ومن خلال الموجود وعبر تلك العلاقة بين ثنائية الوجود والموجود.. تتكون معطيات تصوره الثقافي.
يعيش الإنسان من خلال تعاقب الليل والنهار.. وعبر تلك العلاقة بين ثنائية الحاضر والمستقبل.. تتكون معطيات تصوره الثقافي.
يعيش الإنسان من خلال مشاعره وانفعالاته.. وعبر تلك العلاقة بين ثنائية الحب والكَره.. تتكون معطيات تصوره الثقافي.
يعيش الإنسان بين احتمالية النسبية وضرورة المطلق.. وعبر تلك العلاقة بين ثنائية الحقيقة والوهم.. تتكون معطيات تصوره الثقافي.
يعيش الإنسان منفعلاً وفاعلاً.. وعبر تلك العلاقة بين ثنائية التكرار والخلق والتجديد.. تتكون معطيات تصوره الثقافي.
يعيش الإنسان بين عقله وقلبه.. وعبر تلك العلاقة بين ثنائية العلم والإبداع.. تتكون معطيات تصوره الثقافي.
يعيش الإنسان بين الإلهي والدنيوي.. وعبر تلك العلاقة بين ثنائية الدين والحياة.. تتكون معطيات تصوره الثقافي.
يعيش الإنسان بين المنظور والغيبي.. وعبر تلك العلاقة بين ثنائية المعلوم والمجهول.. تتكون معطيات تصوره الثقافي.
إنها جميعاً أدوار يمثلها ويتمثّلها الإنسان من خلال فلسفة أفق تصوره الثقافي.
إن الفاعل الثقافي يمارس تطبيق فلسفة أفق تصوره الثقافي على مستويين: مستوى المنتِج ومستوى المتلقي، وهما طرفا التجربة الثقافية.
فالوعي الثقافي لا يتحول إلى تجربة ثقافية فلسفية إلا من خلال تصور ثقافي.
والوعي الثقافي لا يتضمن المرجع المعلوماتي للقيم فقط.. بل أيضاً يتضمن استيعاب المفاهيم وفهم القيمة في كليتها وتفاصيلها لصياغة خاصيته المفهومية.. سواء على مستوى إنشاء محمول تصوره الثقافي، أو على مستوى تفسيره لمحمول التصور الثقافي الغيري.
وهذه الخاصية يجب أن تُستوعب من خلال الأمور الآتية.
- إن السجل المعرفي للفرد يُقدم عبر مجموعة من التصورات التي نسميها: «الوعي» والتي بدورها تؤسس للفرد منظومته الفكرية ومنظومته التقويمية.
فالفرد يؤسس تصوراته الخاصة للأشياء وفق تصور السجّل، فهو يحدد مفاهيمه للأشياء وفق التصور الذي ألّفه له السجل، والأمر كذلك بالنسبة لمواقف قبوله أو رفضه للأشياء.
فالفرد لا يرفض الأشياء، بل يرفض مفاهيم الأشياء، ورفضه هنا ليس عملية إجرائية، فهو لا يحلل مبادئ المفاهيم ليرفضها أو ليقبلها، بل العملية قياسية، فهو يتعامل مع مفاهيم الأشياء وفق مواصفات تصوراتها لتصوراته «تصورات السجل».
وهكذا تتم عملية المقايسة التي تُنتج منظومته التقويمية.
- نحن نمارس عقليتنا على مستويين: المستوى الأول «تأليف تصوراتنا نحو المجردات أو تأليف المنظومة الفكرية للأشياء عبر التصورات».
والمستوى الثاني المترتب على الأول هو» تطبيق معايير المنظومة التقويمية لتصوراتنا الفكرية».
- فلسفة أفق التصور الثقافي هي البحث عن حقيقة الإنسان، عن هويته المعنوية عن وجوده الخلاَّق والمبدع.
هي استقلال وعينا الذاتي عن الوعي الجمعي، لا أقصد هنا بالاستقلال عزل وعينا الذاتي عن الوعي الجمعي، لأن قطع العلاقة بين الوعي الذاتي والوعي الجمعي يضر بأفق توقع التصور الفلسفي، كما أن التصور الفلسفي ليس تصوراً صوفياً عليه أن يتطهر من الوعي الجمعي ليحقق وجوده الخاص، حريته وحقيقته، على العكس فالتصور الفلسفي للثقافة هو اختراق لوعي الآخر عبر الاعتراف به والتفاعل والشراكة معه، اختراق لوعي الآخر للارتقاء بالوعي الوجودي العام، إنه استدامة تفكيرية وتنمية فكرية.
- فالتصور الفلسفي للثقافة يجب ألا يكون إقصائيا، لأن المفهوم الوجودي لأنفسنا ولغيرنا وللأشياء غير أحادي ولا ثابت، إنما هو متغير ومتحرك ومتعدد ومتصاعد.. فلا أحد يملك المفهوم المطلق ولا القراءة المطلقة ولا الحقيقة المطلقة.
- إن محمول التصور الثقافي يقدم رؤيته على أنه رؤية مطلقة مشروطة بالنسبية لرؤية الآخر.
لا يعني مفهوم المطلق داخل التصور الثقافي «النهائي»، بل يعني «الاكتمال» اكتمال الرؤية وفق أفق توقع مخصوص يقدمه التصور، فكل تصور ثقافي له أفق توقع يتابع اكتمال الرؤية ويضبط منطقها.
- الواقع وجود حقيقي خلاف الحقيقة التي هي وجود افتراضي يظهر من خلال التمثيلات الممكنة لتقديم الأحكام والاعتبارات الممكنة لتشكيل الظواهر والمعطيات الممكنة لبناء القواعد.
كما أن الواقع هو وجود موصوف بالظواهر والخصائص خلاف الحقيقة التي لا تختص بوصف أو خاصية.
- لقد استطاعت مقولات الفلسفة الحديثة أن تُخرج الحقيقة من زيّها التقليدي على أنها إشكالية فكرية مرتبطة بجدل إشكالي وتصعيد عقلي وتحقيل معرفي، لتضمها كإستراتيجية إجرائية لصناعة أفق التصور الثقافي إلى كل نشاط مرتبط بالواقع أو نشاط يمكن إدراجه كعلاقة مع الواقع، سواء كان ذلك النشاط على المستوى الإنساني أو الفكري أو الإبداعي.
- أول إدراك للإنسان بذاته يتحقق من خلال موقفه من الأشياء، الموقف الذي ينظم أفق علاقته الثقافية بكل ما هو حسي.
وعملية التنظيم تلك تعتمد على تصنيف كل حسي حسب وظيفته الظاهرة وهذه الجدولة لوظائف المحسوسات التي تقوم على اكتشاف حقائق وقوانين الأشياء الثقافية من خلال التعامل المستمر معها ومعرفة فوائدها ولوازمها تُعين الإنسان على استنتاج خصائص كل حسي من خلال جدولة ثانية لخصائص المحسوسات، عن طريق المنظومة اللغوية التي تمثل إدراك الأشياء من خلال تسميتها ووصفها وتعريفها اللغوي.
- التقابل بين جدولة الوظائف «الحقائق والقوانين» وجدولة الخصائص «الممثلات اللغوية للحقائق والقوانين» هو الذي يُعين الإنسان فيما بعد على تأسيس نظرية التأثر والتأثير بين الأشياء والتي يستفيد منها في تصميم أفق محمول تصوره الثقافي، وهذه العملية تتم وفق التدرج من الإدراك الحسي ومعطياته «علم الطبيعة» إلى الإدراك العقلي ومعطياته «علم المنطق».
- إن أفق محمول التصور الثقافي للمرء يُصمم من خلال معرفة الأشياء على مستوى الحقائق والقوانين والمنظومة اللغوية لهما، والتي بدورها تمثل المجال الإدراكي الأوليّ للإنسان على المستوى الحسي كوجود والمستوى العقلي من خلال إنتاج قوانين الأشياء المستمدة من التجربة والخبرة الحسيتين.
- وإذا كان المدرك هو تصميم مشروع صناعة الإنسان، فالمتصور هو مجموعة الأفعال التي يُنفذها الإنسان لتحقيق وجوده في الحياة «فهو لا يوجد إلا بقدر ما يحقق لنفسه من إنجازات» وفق أفق تصور فلسفي وثقافي يُكمل مشروعه الإنساني.
- إن مستوى الحضور والغياب مسألة مهمة في تصميم أفق تصورنا الثقافي للأشياء، فهو يُؤسَس من خلال ذلك المستوى لأي تصور خاصية الثنائية، أي الذات والموضوع وهي خاصية تمنح التصور مرونة التفاعل داخل علاقات التأثر والتأثير والتبادل والشراكة، لأنها تصنع للفرد زاويتين، زاوية للرؤية الداخلية وزاوية للرؤية الخارجية، وهما زاويتان تحققان نوعاً من التوازن والموضوعية للتصور الفردي على الاعتبار أن كل فرد بما يملكه من تصور يؤثر ويتأثر، وأن كل فرد بما يملكه من تصور يمارس علامات علاقاته كذات وكموضوع معاً.
- تُؤسس موضوعية محمول التصور الثقافي على أن وجود الفرد لا يكتمل إلا بوجود الآخر وفهمه وهما يتمثلان من خلال الآنية، وهو تأكيد لفكرة ثنائية الذات والموضوع داخل التصور الثقافي للفرد، وفهم الآخر هو إمكان من إمكانات تحقيق الوجود الذاتي.
فالعلاقات كخارج هي التي تمثل الآنية، أو (الدزاين) والذي بدوره يحدد طريقة الإنسان في إنشاء وتأليف المنظومة الإجرائية لتفكيك وتحليل وفهم الوجود.
- التصور الثقافي للفرد يتكون من موقف ولغة ولذلك يُعتبر النص هو حامل لأفق أي تصور ثقافي.
- إن التأويل هو نشاط يعتمد على آليات ووسائل وأدوات لتحليل بنى التصورات الثقافية الداخلية والوصفية والمعيارية واكتشاف مفاهيم أفقها، إضافة إلى وظيفته المعنوية التي تسعى إلى البحث في البعد المعرفي من خلال إبراز القيم والحقائق التي تختزنها التصورات الثقافية واعتباراتها التاريخية والأيديولوجية، والمعايير والغايات التي تمثل إحالات تتضمنها أفق تلك التصورات لتأسيس برهان جدلي يضفي على التصور الثقافي قيمة المشروع الفكري.
- إن عملية فهم أفق التصور الثقافي تمر بمرحلتين، مرحلة التفسير ومرحلة التأويل والاختلاف بين المرحلتين يعتمد على أساس مستوى الإضافة التي يختص بها التأويل والتي تُعين المؤوِل على اختيار المنطق الفكري المناسب لممثل التصور، في حين أن التفسير يختص بتقديم مخطط إرشادي لمعيارية ممثل التصور، فالتفسير هو: «إبراز البنية، أي مجموع علاقات الترابط العميقة التي تؤسس الهيكل السكوني للنص».. والتأويل اكتشاف «الطريق الفكري الذي يفتحه النص».
ومستويات الإضافة والاكتسابات التي تتم للظواهر هي أدلة على مدى تأثير التناسق بين الوعي «أفق تصور المتلقي» والأشياء الكائنة الخارجية «أفق تصور الإحالة» ومدى تكافؤهما مع أفق محمول التصور الرئيس.
- التأويل هو إعادة اكتشاف أفق تصور ذاتنا الثقافية الأولية عبر ممارسة جدليتي السؤال والجواب، لأن المتلقي لا يمكن أن يحقق أي اكتشاف لأفق تصور غيره الثقافي الانتقال من جدلية السؤال إلى فلسفة الجواب ما لم يفهم أفق تصوره الثقافي، فمعرفة الذات وفق جدلية الحضور والغياب أسبق من معرفة الغير أثر الموضوع على الذات، ومن لا يعرف ذاته لا يستطيع أن يفهم غيره.
أي أن يحدد حدود حضوره وحدود غياب الغير، ويمكن تفسير الغير بتجارب الآخرين ومقتضيات العالم المختلفة.
- القراءة التفكيكية لأفق التصور الثقافي كوسيلة من وسائل فهم القارئ المؤوِل للنص لا تخلق الخطاب المهمّش بل تدفعه للبروز والظهور.
- وحتى يتم الفهم لا بد للقارئ أن يشعر بخصوصيته نحو ممثل أفق التصور الثقافي للكاتب، والخصوصية هنا تعني وجود حدّ أدنى من التجانس بين معطيات أفق تصور القارئ وأفق تصور الكاتب...، توفير مستوى يضمن حدوث استعداد ما للدخول في علاقة تأثير وتأثر بين الأفقين، فتلك العلاقة هي التي تحقق «صخب الكائن».
- التأويل عبر تفكيك أفق التصورات الثقافية المختلفة يسعى إلى تأسيس فلسفة التفكير الفهميّ.
- الفهم هو عملية نقل الذات من خصوصية أفق تصورها الثقافي الخاص إلى وجودها الإنساني الكلي من خلال علاقة التأثر والتأثير داخل تجربة الشراكة الثقافية،... لتمنحها الانفتاح على إمكانات الوجود من خلال استفادتها من إغناءات الاستعمالات الوضعية للمفاهيم، وهذه الإمكانات تتحقق عبر الحوار وعبر جدلية السؤال والجواب.
- إن لحظة التذهن بين أفقي التصور الثقافي الذاتي والغيري هي الاقتراب من الحد الأعلى الرئيس لانبثاق المعنى وتوجه القصد في حوضه الأوليّ.
- فعل التكهن يعتمد على إعادة تركيب الخبرة الفكرية للتصور الثقافي الغيري، أو إعادة تشكيل الخبرة المعرفية لأفق ذلك التصور، وهما تركيب وتشكيل يُدخلان المتلقي في علاقة حوار مع ذات أفق التصور الثقافي للكاتب.
- والتأويل كعملية فهم لا يعتمد على تجريد أفق التصور الثقافي لطرف من الطرفين أو تغليب أفق تصور ثقافي على أفق تصور آخر، بل تسعى عملية الفهم إلى إيجاد توازن بين آفاق التصورات الثقافية لجميع الأطراف، هذا التوازن الذي تضمنه عملية الفهم هو الذي يقود جميع آفاق التصورات الثقافية إلى تأسيس شراكة فكرية أو مشروع ثقافي مشترك.
- إن هدف التوازن بين آفاق التصورات المختلفة لا يسعى إلى التطابق أو التوحيد بين آفاق التصورات الثقافية، بل يسعى إلى إيجاد مشاركة متبادلة بين تلك الآفاق وبخاصة أن كل التصورات الثقافية تُبنى وفق معايير التجربة الإنسانية العامة، بما يعني أن فرضية الشراكة الثقافية والمشروعيّة الفكرية ممكنة.
- عملية التوازن بين آفاق التصورات الثقافية المختلفة وإحالاتها تعتمد على الكشف، الكشف الذي يتطلب عملية تحفير دقيقة وتأويلات عميقة ومتنوعة لتحليل الرموز والعلامات من خلال صيغها الوقائعية الدالة على أوليات المقاصد والرغبات والأفعال.
- التمعيّن هو الذي يحقق عملية التوازن بين آفاق التصورات الثقافية المختلفة أو قل توازياً بين الموجودات وهو توازن وتوازٍ يحفظ لكل أفق تصوراً ثقافياً ذاتياً فهمه عن الآخر المستقل، كما يحفظ للآخر نفس الاستقلالية، وبذلك فالتمعيّن يضم قيمتين استقلاليتين، استقلال الحدود الإجرائية لفهم أفق التصور الثقافي الفردي الموجود عبر «الشرطية» الخاصة، الشرطية التي تربطه بتوفر الإمكانية، واستقلالية حاصل الفهم الإجرائي لأفق التصور الثقافي الغيري من خلال أفق التوقع الذي يملكه الآخر عبر ممثلاته التي هي موضوع فهم الأنا، لتُحقق تلك الأنا عبر الفهم علامة تميزها كوجود إنساني.
- أفق الإحالة هي مجموع الإدراكات والخبرات السابقة، وتعتمد هذه الأفق على وجوب التوازن بين الأفق الزمني للحاضر والأفق الزمني للماضي»الحكم بالسبق» ومهمة هذا التوازن هو تحقيق الاندماج بين الحاضر والماضي مما يكسب الحاضر أفقا استباقيا يرتبط بالماضي وهو ارتباط يٌبقي الماضي محتفظا بقيمة حضورية، القيمة التي تؤسس للقارئ بنية أفق تصوره الثقافي.
- تعتمد صناعة محمولات آفاق التصورات الثقافية على أكثر من مستوى واستراتيجية فهي تُمكن المتكلم سواء صانع محمول التصور أو مفسره من امتلاك مقدرة على إنتاج منطوقات مناسبة لأنماط المواقف الاتصالية المختلفة، وليس فقط على مستوى البناء اللغوي، كما تُمكن كلاً من صانع محمول التصور الثقافي ومفسره من امتلاك مقدرة على تكوين نظام من التوقعات الاجتماعية والضبط الاجتماعي من خلال أداء المواقف الخطابية وإعادة تجديد العلاقات الاجتماعية.
جدة