لا يأتي « محمد العلي « لقراءة التراث، كباحث مستجد أو طارئ عليه، وإنما يأتي إليه كمن يعرف منزله، حجرة ً حجرة ً، فهو الذي قد ألفه منذ الطفولة، وتدرج في حواضنه الدراسية (الشريعة، و اللغة، وعلم الكلام، والنقد والشعر، كجزء من عدة تصنيع «سماحة الشيخ). لقد عاش التراث حتى الثمالة، ثم أعاد قراءته برؤية تحليلية ونقدية معمقة، اصطفت منه ما يستحق الاستمرارية، وتمردت على ما سواه.
ما هو مفهوم التراث، وما هو الموقف منه؟
محمد العلي، وفي معظم محاضراته، ومقالاته الطويلة والقصيرة أيضاً، لا يضع بين أيدينا إجابة عارية و محددة للإشكالية التي يعالجها، بل يشتغل وفق إستراتيجية تأليفية لكتاباته، تستند على «عدّة» اطلاع معرفي واسع، وتعمل على استصحاب آراء الآخرين، إما لمساءلتها، ونقضها، وإما لتوظيفها، في التعبير عن أطياف ما ترنو» وجهة نظره « للإيحاء به.
وهذا الطريق الصعب والمتميز في بناء هرم الكتابة عند كاتبنا، هو ما يقود جانباً من قرائه إلى متعة حمى الأسئلة المنضوية تحت عباءة كتابته، أو يدفع بعضهم للمجاهرة بالقول: أترى كاتبنا يتقصّد ذلك النهج في الكتابة تحديداً، لأسباب معرفية أو فنية، أم أنه يتنكّبه تحت ضغط الخطوط الحمراء، الاجتماعية والسياسية؟
ربما كان السبب كامناُ في أحد هذه الاحتمالات، أو فيها كلها، أو غيرها، فنحن لا نعيش في « هايد بارك لندن»، ولكن ما أرجّحه بحكم المعايشة والمتابعة القريبة، هو أن نتاجات محمد العلي الفكرية والإبداعية تتميز بصياغات فنية متفردة، لا تنشغل بمهمة إيصال الرسالة إلى قارئها بشكل مباشر وحسب، وإنما تعمل على تخليق «حالة « فنية وفكرية يتغيا منها إصابة القارئ بعدوى التحليل والتأمل والمساءلة، وعدوى الجمال أيضاً!
ويمكننا التعرف على جزء من إجابته على هذا السؤال المركّب - في ما يخص الإبداع الشعري تحديداً – في قوله: « القصيدة الناجحة لا تعطيك معنى أيديولوجياً... إنها فقط توصلك إلى حالة انفعالية . ..هذه الحالة لا تدري من أين جاءت؟ من الشكل؟ من المضمون؟ من المعبر عنه؟ من المسكوت عنه...». (محمد العلي شاعراً ومفكراً - «المثقف والأيديولوجيا «- ص 314)، وقد وظّف تلك الاستراتيجية ذاتها، وإن كان بشكل مختلف و في حقل مختلف وبأدوات أخرى، في مقالاته الطويلة ومحاضراته.
« العلي « وفق هذا النهج، يختط أسلوباً في التأليف ( رؤية وتعبيرا ً)، يلبس فيه ثياب الكاتب المحايد، والقارئ الشكّاك، والمتأمل الحواري، الذي لا يسعى لصياغة خطاب أيديولوجي « دعوي» مباشر يتغيا منه التأثير على قارئه، وإنما يعمل على اصطحاب القارئ كشريك في عملية تأليف النص، بدءاً من التعرف على مفهوم فكرته الجوهرية، وسياقاتها التاريخية والمعاصرة، والتوقف أمام العديد من القراءات المختلفة والمتعارضة حولها، ثم يمضي لطرح الأسئلة مع قارئه وعليه، لجعله شريكاً فاعلا في رحلة الكتابة والتأمل والمراجعة وصياغة مآلات الأطروحة.
ولعل قراءة سريعة في محاضرته في نادي جدة الأدبي والثقافي، في عام هـ - 1987م المعنونة ب «مفهوم التراث « ستكون أنموذجاً ملائماً لتوضيح ما ألمحنا إليه من عمق اطلاع محمد العلي « على التراث (العربي والإسلامي) وما كتب على ضفافه، وكذلك للتعرف على منهجه النقدي منه، وأسلوبه الفني في توظيف آراء ومواقف مثقفين آخرين، للحوار والنقض و للتعبير عن ما يود أن نصل معاً إليه من رأي، دون حسم جازم أو إلزام.
* (ص 279 – محمد العلي شاعرا ومفكرا).
وهنا يمد أعناق رؤيته لمحاورة عدد من المفكرين والكتاب العرب الذين قاربوا تحديد مفهوم التراث(العربي)، ومن أبرزهم د. زكي نجيب محمود، و» أدونيس « والجابري، وغيرهم، فيشير إلى ما وصفه بتناقضات رأيين للدكتور زكي نجيب محمود حول التراث، فيما ذهب إليه من أن التراث « هو ما تصنعه أنت، فالتراث كتب وفنون وغير ذلك.. لكنك ستقرؤه لتستخرج منه ما تستطيع ..دون أن يفرض نفسه عليك « (ص 280 –المرجع السابق)، وهنا سيقف محمد العلي متشككا أمام عبارة « دون أن يفرض نفسه عليك «، لأن هذا التوصيف – في رأيه - يجعل « التراث مستسلماً بصورة جمادية أم آمنا»!
ولكنه سيتفق مع نفس المفكر حينما يعود للقول بأنه: « ليس باختيارنا أن نأخذ ماضينا أو نتركه، لأن هذا الماضي إنما هو ماضي الحاضر».
«العلي « و»أدونيس»
*، ليرفع « العلي « نبرة صوته بأن هذه النظرة « نظرة تجزيئية قاصرة، لأنها حاولت سحب مقاييس الحاضر على الماضي أولاً،... وثانيا هي جعلت الثابت والمتحول ظاهرتين منفصلتين عن بعضهما». (المصدر السابق ص 299)، ويستطرد في هذا السياق للقول « إن التراث ليس مجموعة من الربوات ينظر بعضها إلى بعض دون أن تجرؤ إحداها على التداخل مع مقابلتها، بل هو مجموعة من الموجات في كل زمان، وإن لقاءهما معا هو الذي يكوّن البنية العميقة للأمة ويلد التكوين النفسي المشترك» ( المصدر السابق - ص 300).
لذلك سيتكئ « العلي « في تحديد رافعة وجهة نظره في هذا المعترك على كلام حسين مروة الذي يقول « ينبغي – أول الأمر – أن نلحظ الفارق بين التراث نفسه ومعرفة هذا التراث، .... فمعرفة التراث إضافة خارجية ترد إليه من مصادر متعددة، لهذا هي تتعدد وتختلف، وهو واحد لا يتغير « (المصدر السابق - ص 282)، لكي يخلص كاتبنا إلى القول إن « التراث واحد.. إنه شاخص وشبه محدد، فلماذا اختلف هؤلاء إذن، وهم ينظرون إليه ويستقون منه؟ !!»
لماذا..
هذا ما حاول مقاربته، حين أوضح أن أهم أسباب الاختلاف تنبع من «غياب المناهج العلمية في قراءة التراث والموقف منه»، وأن العلوم والفنون ذات الولادة العربية، نشأت في محاضن غياب تلك المناهج العلمية، وفي ظروف تأخر عصر التدوين والرقعة الجغرافية الواسعة للوطن العربي والإسلامي، التي ساعدت على بعثرة تلك المناهج، الخ... (وفي ظني أن هذه الأسباب التي أوردها كاتبنا ليست كافية لتبرير ذلك الاختلاف في قراءة التراث، حيث إميل إلى أن عوامل أخرى مثل الظروف الاقتصادية و السياسية، والموقع الاجتماعي، والذائقة الفردية، وغيرها، تتعاضد معاً لإنتاج تلك القراءات المختلفة والمتضاربة في أغلب الأحيان!)
ذلك هو الجزء الأول الذي عنيت به تلك المحاضرة « حول مفهوم التراث»، ولكن الجزء الأهم سيتركز حول ما نقرأه فيها من تبديات عميقة لجدل التراث والحداثة، وخاصة حول جذور مكوني «العقل، والحرية « في التراث، وفي مكونات الكاتب تحديدا، حين يقف أمام النقاط المركزية التالية:
1- علم الأصول:
ويناقش فيه واحداً من أهم تلك الأصول التي قعّد لها الإمام الشافعي، وهو « القياس «، ويقابله «العلي « بمفهوم الرأي والاجتهاد من داخل ا لتراث، « منحازاً» في تحليله وموقفه الجدلي إليهما ضد مفهوم «القياس».
2- علم الكلام:
ولذلك يرى أن منهج الاعتزال قد قام على دعامتين أساسيتين هما:
أ- إقامة مفهوم العدل على حرية الاختيار
ب- اعتبار العقل البشري مصدرا ثانيا للمعرفة.
ولنا أن نقول بأن هاتين القاعدتين (اللتين حفلت بهما أجزاء من تراثنا) هما من المكونات الأساسية لمفهوم سيرورة الحداثة، التي تركز على حرية الاختيار وحرية العقيدة، واعتبار العقل البشري ،في علاقته بالواقع المادي الملموس، مصدرا للمعرفة.
ومثلما تصاعد السؤال الغاضب من المفكرين والجماهير (في الغرب تحديدا) منذ نهاية الستينات الميلادية ضد الوعود البراقة والمخاتلة للحداثة السياسية التي تلفعت بها كثير من القوى السياسية الحاكمة ( النازية والفاشية والمكارثية )، فإن مقالات «العلي « تتساءل أيضا ً ومن زاوية أخرى، وعبر مقالاته في جريدة عكاظ، بعنوان « كان يا ما كان « عن : ما الذي يجعل بعض المشاريع المستقبلية المجددة ينجح، و بعضها الآخر يفشل؟
و ليقف أمام السؤال الذي يخص موضوعنا، وهو:
لماذا فشل الفكر المعتزلي؟
والمقالة الضافية المطولة (عدة حلقات)، تشير إلى أن الفكر المعتزلي فشل لأنه لم يجادل الظروف الموضوعية جدلاً صائباً.
وأنه فشل من الناحية الاجتماعية؟
وأن ذروة فشله تمثلت في عدم تطبيقه للمفاهيم التي نادى بها، وهي «حرية الاختيار «، وأن المعتزلة حين وصلوا إلى موقعهم في الحكم، عذبوا من يخالفهم في الرأي، وأكبر مثال على ذلك، ما تعرض له الإمام أحمد أبن حنبل من محنة مشهورة في تاريخنا.
وبعد هذه الوقفات يمكنني القول بأن مفهوم التراث عند «العلي «، والموقف منه يتلخص في أن التراث، هو ما خلفه السلف من آثار اجتهادية دينية، و ثروات علمية وفكرية وفنية الخ..، والتراث واحد شاخص وشبه محدد، و لا يمكننا تبني مفهوم «القطيعة « معه .. لكننا سنجتهد و نختلف حتماً في قراءته لأسباب متشعبة.
*التراث يفرض نفسه بصورة شعورية أو لاشعورية، ما دامت الذهنية التي أملكها ولدت وترعرعت من خلال اللغة، ولكن هل أقف مستسلماً أمام هذا الفرض؟؟
هل أدع إيماء التاريخ يأخذ ببصري إلى حيث يريد؟
*. (المصدر السابق ص 281)».
الدمام