لن أتحدث هنا عن ملتقى النص العاشر الذي أقيم الأسبوع الماضي، ولست معنية هنا برصد نجاحاته التي لا تخفى على المثقفين والمتابعين للحراك الثقافي والإعلامي المصاحب للملتقى، فقد أسدل الستار بعد يومين من الجلسات النقدية والأوراق العلمية التي تناولت الشعر من جوانب متعددة، ولم يبق لنا بعدها إلا تلك المشاهدات التي ظلت حاضرة في الذهن ولن تنطفئ بعد أن أوقدت أسئلة كثيرة تلح على الذاكرة، وتفرض علينا خروجها مكتوبة لنتشارك جميعا في وضع جواب لكل سؤال لم يولد من وحي ملتقى النص فقط بل ظل حاضرا بعد كل ملتقى أو مؤتمر أدبي يجتمع فيه نخبة من المثقفين والمثقفات لدراسة قضية محددة من قضايا الفكر والأدب، ولا أظن أنّ المنتسب للثقافة لا يجدر به نقد سلبيات مؤسساتها أو يؤخذ عليه نقده لأفرادها باعتباره جزءا منها، ذلك أنّ من أهم سمات المثقف تلك النزعة النقدية التي تفرض عليه أن يكون ناقدًا بعيدًا عن شعارات الولاء للمؤسسة التي ينتمي إليها، حيث يؤكد إدوارد سعيد أنّ المثقف لا حجر عليه من ارتباطه مع مؤسسة معينة تصر على الولاء لها فتكبت صوته النقدي، فدور المثقف لا ينحصر في تقديم ورقة هنا أو بحث هناك، بل هو أعمق من ذلك بكثير، فقد قام المثقفون العرب بأدوار عظيمة في النهضة العربية، عبرت بمجتمعاتهم إلى قمم التقدم وخلعت عنها عباءة التخلف، فدور المثقف كما يقول الجابري:» يتحدد بالدور الذي يقوم به في المجتمع كمشرع ومعترض ومبشر بمشروع أو على الأقل كصاحب رأي وقضية» من هنا يصبح أمام المثقفين مسؤولية تاريخية وأخلاقية لينهضوا بواجبهم لمواجهة التحديات الراهنة والقادمة والتي تشكل امتحانًا حضاريًا للمثقفين يضمن تأهلهم للنخبة، لذا لا يمكن بأي حال أن نصمت أمام مشاهدات ومواقف سلبية تتكرر من بعض المثقفين في كل ملتقى يعقد أو فعالية ثقافية تقام، أهمها حساسية بعض الباحثين والأدباء من النقد، فما يزال ينقصنا سعة صدر الباحثين لتقبل النقد، والوعي بأهمية الاختلاف وحق الآخر في أن يقبل أفكارنا أو يرفضها، فقد نختلف حول فكرة أو نستفسر عن أخرى، وقد نؤيد نتيجة أو ننقضها، ولكن في إطار المنهجية والعلميّة التي ترتقي بالحوار إلى العقلانية المعبرة عن وعينا بمفهوم الحوار الهادف، ولكنك تجد بعض المداخلات تتحوّل إلى تجريح أو اتهامات بعيدة عن أخلاقيات الحوار الفعّال، فهناك فرق واضح بين النقد الموضوعي والنقد الشخصي لإثبات الذات أو هدم أفكار الطرف الآخر، يقابل ذلك تشنج بعض الباحثين في ردودهم بما يشي جهرًا باعتقادهم أنهم فوق النقد، وهذا دليل الفراغ الثقافي فمن يدعي معرفة كل شيء لا يعرف شيئًا!
ولا أعلم لماذا يشخصن بعض النقاد بعض الردود؟ ولماذا لا يتعاملون معها على أنّها قضية أو فكرة من حق المتلقين الاتفاق معها أو الاختلاف حولها، من دون أن ننقل هذه التعليقات من إطار مناقشة البحث المطروح إلى محاسبة الباحث على موقفه أو أفكاره؟ فالنقد عامل بناء لا معول هدم!
وفي مثل هذه الملتقيات التي تجمع نخبة الفكر والثقافة ينبغي أن نكون أمام مقارعة الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، نسوق خلالها الأدلة والبراهين على ما نميل إليه من نقض أو معارضة لفكرة وردت في بحث أو ورقة عمل، من دون تحيز أو تشبث بالرأي، فليس المطلوب منّا التصفيق لكل ما يطرح من دون نقد موضوعي يهدف إلى طرح فكرة جديدة تدعم قضية الباحث أو تنفيها، بما يعود على الباحث والمتلقي بالفائدة المرجوة من مثل هذه الملتقيات، فإثارة العقل وشحذ التفكير ثمرة من ثمار الحوار الهادف الذي يفضي بنا في النهاية إلى تبني فكرة أو التخلي عنها بعد القناعة بعدم جدواها.
وإذا تركنا هذا الموقف لمواقف أخرى نشاهدها من بعض المثقفين أبرزها قيمة احترام الوقت، فأنت في كل ملتقى لا بد أنك سمعت رئيس الجلسة يطلب من المثقفين الدخول إلى القاعة لبدء الجلسة، وكأننا بحاجة إلى من ينبهنا لموعد علينا الالتزام به كما ورد في جدول الجلسات، لكننا في كل مرة نبقى ننتظر الأعداد الكثيرة ممن لا يقيمون وزنًا لإدارة الوقت، وبعد أن نبدأ لا تلتفت خلفك لأنك ستفاجأ أنّ العدد يتناقص وأنّ بعض الحاضرين انسحبوا من الجلسة ليقضوا وقتًا طويلاً في الردهة يلتقون فيه مع بعضهم في أحاديث جانبية بعيدًا عن موضوع الجلسة والبحوث التي تطرح فيها، ثم تزداد عجبًا عندما تقرأ في الصحف آراءً لهم عن جودة الأوراق المقدمة أو ضعفها! ولا أعلم متى نحترم مصداقية الكلمة التي تحتم علينا أن نقول الحقائق أو نصمت. و إذا علمنا أنّ جميع الصحف قد نشرت مواعيد انعقاد جلسات الملتقى، وأرسلت الدعوات لكثير من المثقفين والأكاديميين والشعراء للحضور، إلا أنك تجد هي/هو يصرّح هنا أو هناك أنه لم يدع للملتقى، لتعجز حينها عن الرد فالمهتم بالمعرفة لا يحتاج إلى دعوة بل إنّ إعلان النادي لمواعيد الندوات هو دعوة صريحة للحضور، في ملتقى الشعر حضر الباحثون والنقاد والإعلاميون وغاب الشعراء والشاعرات بحجة الدعوة الخاصة، وهل النادي معني بدعوة كل شاعر أو شاعرة بشكل خاص بعد أن أعلنها عامة؟ أم أنّ الأمر نرجسية تحيط بصاحبها فتعزله عن الاستفادة من النقد.
كل ما سبق يشير إلى خلل في فهم بعض المثقفين لأهمية مثل هذه الملتقيات التي تعقد بشكل دوري تتكرر فيه مثل تلك المشاهدات التي أنهكت المنظمين وأثقلت كاهل الملتزمين، فما أسوء أن ننظّر كمثقفين لأخلاق وسلوكات ثم لا نمارسها على منابر الثقافة حيث تتمثل أعلى القيم المعرفية والسلوكية!! ليصبح التساؤل مشروعًا «ما الذي نستطيع أن نرجوه، وأن نفيده من أفراد ينشدون التقدم بوعي الأمة أو المجتمع وهم في وعيهم معطوبون قيميًا؟»
جدة