Culture Magazine Thursday  08/04/2010 G Issue 305
فضاءات
الخميس 23 ,ربيع الآخر 1431   العدد  305
 
المنطق عند ابن تيمية: الحد «المقام السالب» مثالا
عبدالله بن محمد السعوي

ثمة ضربان من الإدراك المعرفي ميز المناطقة بينهما، أحدهما: إدراك المفاهيم في الذهن (التصور)، وإدراك النسبة بين مفهومين (التصديق)، وجنحوا نحو الاعتقاد بوجود منهجين لبلوغ هذين الإدراكين، يتمثلان في ذلك المقام السالب الذي مفاده أن الحد لا يحصل التصور إلا بامتطاء صهوته, والسالب الآخر وهو ما فحواه أن القياس لا يُنال التصديق إلا من خلال استصحاب مادته. مقامان سالبان ومقامان موجبان، فالسالبان ينفيان الخطوط كافة التي يتوسلها ما سوى المناطقة في بلوغ التصور والتصديق, والموجبان يثبتان أن سبيلَي المناطقة هما فحسب الصراطان الآيلان نحو التصور والتصديق. هذا وقد باشر ابن تيمية تقويض تلك الآليتين:

الحد, والقياس, اللذين تشكل على ضوئها المنطق الصوري، وأبدى وبصياغة متماسكة براعة فائقة في الاشتباك مع المنطق من خلال توسل المنطق ذاته، وتسنى له بالتالي تعرية مواطن الوهن في بنية الصياغة الصورية للمنطق الأرسطي، وقرر ابن تيمية أن الأطروحة التي تلح على ضرورة استيعاب المتبنيات المشائية والانفعال بوحدات التفكير المنطقي بحسبها الجادّة الآيلة نحو بلوغ اليقينية وتلافي الالتياث بمتتاليات الفوضى المعرفية, تلك الأطروحة التي نلحظها مثلا عند الغزالي عندما أكد أن (من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلا) (المستصفى ص10) فإن ابن تيمية دحض تلك الفكرة، مؤكدا أنه من المتاح للمعرفة العلمية أن تضرب صفحا عن هذه المحتويات المنطقية، وبوسعها البحث عن الحقيقة وانتظام مسارها باتجاه اليقين المتوخى من غير استصحاب لموازين معيار العلم.

ابن تيمية المنطقي - وهي منطقية عزبت عن جلّ البنى الذهنية! ولا غرو فالحضور التيمي جرى تقليص شساعته واختزال بُعده المتعدد وتبسيط بنيته المركبة (سبق عصره)؛ ولذلك ففي زمن التنوير الأوروبي وبعد ابن تيمية بأكثر من ستمائة عام انبرت فعاليات فلسفية لها حضورها الباذخ في العمود الفقري للمشهد الغربي وتصدت لذلك المنطق في حالة من الاستنساخ النسبي للنقد التيمي؛ حيث تواردوا على ذلك المعنى الذي يقرر أن علة الوهن الأوروبي كامنة في مضامين ذلك المنطق ومبثوثة في زواياه، وكان من أبرز الناقدين (فرنسيس بيكون) من خلال سفره (الأورغانون الجديد) وكذلك (جون ستيوارت مل) أحد فلاسفة المذهب الحسي.

وعودا على بدء، فقد توجهت السهام التيمية نحو نقد (المقام السالب)، ومن أوجه عدة سأوجز أبرزها.

أولاً: تقريره عدم بديهية هذا المقام, وتخلف عنصر البديهية - أو المبادئ الأوَل كما في النعت الأرسطي - يملي ضرورة تفادي الوقوع في فخ السلب بلا علم. وتلافي الالتياث بهذا المسلك لا يكون إلا من خلال إقامة الدليل وإيراد الدلالة المقررة لمصداقيته, وهذا - أي توليد الدلالة - معدوم في الأطروحة المنطقية، وما دامت البرهنة غير واردة على تلك القضية السالبة فهذا يوجب تهافتها؛ وبالتالي فلا يليق إطلاقا أن يحيلوا - أي المناطقة - المقام السالب المبني على غير علم إلى أساس توزن به العلوم! ولذا يقول ابن تيمية (وإذا كان هذا قولا بلا علم، وهو أول ما أسسوه، فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم ولما يزعمون أنها آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن أن يزل في فكره؟) (نقض المنطق, الفتاوى 9-84).

ثانياً: إذا كان المناطقة ينزعون إلى أن الغاية من إجراء الحد تتمثل في تحديد البعد الماهوي للمحدود لا نفسه فهنا يستفصل في الأمر؛ لأن الحاد قد يتشكل لديه بصيرة بالمحدود إما عن سبيل الحد أو بدونه: فإن كان الأول فهو مستلزم (للدور القبلي أو التسلسل في الأسباب والعلل، وهما ممتنعان باتفاق العقلاء) (الرد على المنطقيين 1-60)، وإن كان الثاني فهذا يعني أن (القضية «التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد» قضية باطلة) ( 1-60).

ثالثاً: أن بناء التصورات ليس مشروطا بالحدود المنطقية، ولا مرهونا باستدعائها؛ ف(جميع الأمم من أهل العلم والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها، ويتصورون مفردات علمهم دون أن يتكلموا بهذه الحدود, فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود)( 1-61).

رابعاً: يقرر ابن تيمية - رحمه الله - أن الحدود المنطقية لا تسلم من إيراد الاعتراضات، ومثّل لذلك بحد الإنسان، وأنه حيوان ناطق؛ حيث تواردت عليه اعتراضات مشهورة, وحد الشمس، وكذلك الاسم له ما يربو على عشرين حداً كافتها طالها الاعتراض ونظيره القياس عند الأصوليين (وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة وأهل الأصول والكلام معترضة لم يسلم منها إلا القليل) (نقض المنطق, الفتاوى 9-85).

خامساً: من فمك ندينك. استراتيجية اختطها ابن تيمية إبان سبره أغوار النظام اللغوي الأرسطي وتفكيك نسقه المعرفي؛ ولذا فقد وظف قانون أرباب المنطق الذي مؤدى فحواه يفيد بأنه لا سبيل إلى تصور الماهية إلا عبر ذلك الحد الحقيقي الذي تشكلت مكوناته من الذاتيات المشتركة (الجنس) والمميِّزة (الفصل)، وإذا كان هذا الحد ضربا من الاستحالة إذ ليس بالمكنة تحقيقه وإن تحقق فبغاية العسر كما يقررون؛ فإنه لن يتسنى لنا القبض على أي تصور للحقيقة، ومن هنا فقد(علم استغناء التصور عن الحد)(9-86).

سادساً: يقرر ابن تيمية إحدى صور التناقض عند المناطقة؛ فهم في الآن الذي يعلنون فيه أن الحدود الحقيقية يتعذر تأتِّيها إلا للحقائق المركبة المتمثلة بالأنواع التي ينضوي تحت لوائها: جنس كجزء مشترك وفصل كجزء مميز, وهم في الآن عينه يحُدون العقل مع عدم ارتهانه للشرط التركيبي؛ إذ هو يدلف انتماءً في إطار الحقائق البسيطة، وهذا تناقض منهم من جهة, ويدل من جهة أخرى على (استغناء التصور عن الحد) (9-86).

سابعاً: يقول: (والعلم بأن اللفظ دال على المعنى أو موضوع له مسبوق بتصور المعنى فمن لم يتصور مسمى الخبز والماء والسماء والأرض والأب والأم لم يعرف دلالة اللفظ عليه) (الرد على المنطقيين,1-65)، ويقصد بذلك أن التصور الذهني للمعنى تتشكل نواته قبل العلم بدلالة اللفظ عليه، ونحن لا نهتدي للمسمى من اسمه فمجرد الاسم لا يوجب تصوير المسمى لمن لم يقم في عقله تصور له، وإنما ندرك المسميات، وتقوم في أذهاننا قبلاً، ومن ثم يجري الإيماء إليها بأسمائها, وإذا كان المعنى يتم تصوره قبل سماعه ولا يفتقر إلى اللفظ في تصوره لم يعد ثمة حاجة إلى القول بأنه تصوره باستماعه اللفظ (لأن في ذلك دورا قبليا) (1-66).

ثامناً: يقول: (فإذا كان المستمع للحد يبطله بالنقض تارة وبالمعارضة أخرى، ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود، عُلم أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد)(نقض المنطق,الفتاوى 9-87)، ويريد بذلك أنه ما دام المعترض على الحد بمكنته أن يؤوب على أسسه بالإبطال إما من خلال النقض بتوسل آليتي الطرد والعكس, أو من خلال المعارضة, فالطرد يتم عندما يثبت المعترض أن ثمة حدا غير منطوٍ على محدوده ولذا فهو ليس مانعا بل يدلف سواه فيه كما لو قلنا: الإنسان حيوان. أما العكس؛ فكما لو أكد المعترض وجود جزء من المحدود مع عدم وجود الحد فهو ليس جامعا كما في قولك: الإنسان هو العربي. فالحد هنا ليس منعكسا.

أما المعارضة فتتمثل في معارضة الحد بحد آخر وإثبات نقيض ما ادعاه الحاد، وبناء على هذا - وهو بيت القصيد هنا - فإذا كان بوسع المعترض على الحد أن يبطله بنقض أو بمعارضة، وإذا كان كليهما - أي النقض والمعارضة - لا يمكن إلا بعد تصور المحدود فإننا بالتالي ندرك إمكانية تصور المحدود بدون الحد.

بريدة Abdalla_2015@hotmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة