عام 1967.. وفي حارة «الخندك» قدَّم لي الكاتب «علي فلك» نصاً مسرحياً مكتوباً في دفتر مدرسي بغلاف أزرق عليه ورود بيضاء.. وعندما فتحت الغلاف وجدت مسرحية تحمل عنوان: «هزار».. قرأت المسرحية، وكنت يومها تخرجت من معهد الفنون في بغداد.. وأنشأت فرقة مسرحية هي فرقة مسرح اليوم وأسست مؤسسة للسينما هي أفلام اليوم.. وأصدرت مجلة سينمائية هي السينما اليوم.. وأنتجت فيلم «الحارس» قبل أن أهجر وطني مضطراً.
كنا في حارة «الخندك» مسكونين بالخوف.. الخوف من الموت، حيث نرى الحارة.. ونرى رحيل بعض سكانها ويفارقنا أحبة لأسباب كثيرة.. كنا نخاف من بساتين النخيل التي تقع المقبرة خلفها ويتمشى حولها مغسل الموتى «طوينة» كما كنا نخاف الشرطي ورجل الأمن السري.. ونسمع أخباراً عن تعذيب المعتقلين.. وأحياناً كثيرة يبالغ في تلك الأخبار.. لكنها والواقع يسكنوننا في الخوف المستمر.. هذا الخوف وجدته على ما أتذكر يومها في مسرحية «هزار» التي كانت مكتوبة بالقلم الجاف الأزرق على سطور الدفتر المخططة.
لم تقدم المسرحية على المسرح ولم تنشر في كتاب.. وانتقل كاتبها بحثاً عن العمل بين الجزائر وتونس وعاش حياته مغترباً يدرس اللغة العربية في مدارس الجزائر وتونس.. عندما وصلت إلى تونس في شهر فبراير من عام 2010 حاولت البحث عن صديقي الكاتب «علي فلك» كي ننبش في ذكريات الصبا والثقافة والاعتراك الجميل والمسرح والسينما.. ولم يخطر في بالي أن يأتي إلى المقهى الذي تواعدنا فيه وهو يحمل لي كتاباً من مؤلفاته هدية لي.. وكان الكتاب هو مسرحية «هزار».. سألته عنها فقال لي هي ذات المسرحية التي طلبت منك أن تقرأها في نهاية الستينيات.. لكنني طورتها كثيراً ونشرتها الآن في تونس. سألني في حال استهوتني أن أخرجها للمسرح.
أنا أحب المسرح وأصولي السينمائية هي مسرحية وعلمني المسرح كثيراً وأهَّلني لسينما علمية الأداء. لم يعد المسرح يخطر على بالي كثيراً سوى المشاهدة لأن السينما أخذتني بعيداً إلى عالمها.. ولكني كنت متشوقاً لقراءة المسرحية عسى أن أتذكر كيف رأيتها في الماضي وكيف أراها الآن.
ما إن وصلت السكن حتى بدأت بقراءتها.
لم تكن أحداث حارة «الخندك» مقروءة فيها.. لكن عالم «الخندك» الغريب نستطيع نحن سكان تلك الحارة أن نلمس أجواءها بوضوح.. ليست هي مسرحية ذات طابع تسجيلي كما مسرحيات «بيتر فايس» لكنها مسرحية تقع بين روايات «أجاثا كريستي» وبعض أعمال «أدكار ألان بو» و»أفلام هتشكوك» وبين فلسفة الوجود.. تمتاز مسرحية «هزار» بالتشويق لمتابعة ما سيأتي، فالكاتب نجح في بناء شخوصه وبناء المسرحية درامياً معتمداً الحوار القصير في كثير من الأحيان مبتعداً عن المونولوجات والديالوجات الطويلة حتى لا يسقط في التفسير تاركاً للمتلقي اكتشاف الثيمات والمضامين بنفسه.. لقد سرد الأحداث بصيغة مشوقة ذات طابع يقترب من الروايات البوليسية.. ولكن الأحداث والشخصيات وتداخل عوالمها من خلال فلسفة الوجود والعالم الميتافيزيقي تدعو إلى رؤية العالم من خلال رؤية المؤلف.
«هزار» هو اسم قطة غادرت المنزل ودخلت روحها المنزل على هيئة طفلة تحمل نفس الاسم يجلبها للمنزل زائر غريب ويودعها أمانة لدى صاحب الدار.. وتكبر الطفلة لتصبح فتاة يافعة جميلة في زمن قصير.. فيتزوجها صاحب المنزل الذي هو في صراع مع عمته التي تشاركه السكن.. وهي امرأة لجوج ومتعبة في مشاكلها حتى بصدد أصغر الأشياء داخل المنزل.
إن القطة «هزار» التي غادرت المنزل وساد الاعتقاد بأنها ماتت وتداخل الشك واليقين في موتها ورحيلها عن هذا العالم إنما هي لا تزال على قيد الحياة لأن المعتقد الشعبي الذي عرفناه وسمعناه ونحن أطفال وصبية في حارة الخندك أن للقطط سبعة أرواح.. فهي تموت وتحيا على مدى سبع مرات والرقم سبعة له دلالاته في التاريخ الديني والميثولوجي.
مسرحية «هزار» ليست مسرحية قائمة على فلسفة الرعب التي اعتمدها الفريد هتشكوك في أفلامه، بل هي قائمة على فكرة الوجود والروح والعالم الثاني.. ويكشف الكاتب من خلال مسرحيته بشخوصها الخمسة الأبعاد الفلسفية للعلاقة بين الواقع والميتافيزيق.. وهو انعكاس طبيعي لحياة حارة الخندك والمعتقدات الأولى القائمة على الحكايات الشعبية وأجواء الفقر وبساتين النخيل المسكونة بالأرواح الشريرة «الطناطل» التي يعتقد الناس أنهم يسمعون أصواتهم بين البساتين ومقبرة الحارة وهم يأتون إلى المخابز ليلاً ويغادرونها فجراً حتى يأكلوا بقايا الخبز في تلك المخابز.. وحارة الخندك التي تخبو فيها الأضواء ليلاً ليس بها سوى بضعة فوانيس في أزقتها تعكس ظلال المارة الذين يعودون في آخر الليل.. خلقت تلك المعتقدات وبقيت حياة الناس مسكونة بالمخاوف.. كل هذه الأجواء استخلصها الكاتب دون الإشارة للتفاصيل الواقعية.. لكني وجدت الحارة ماكثة في وجدانه دون أن يشير إليها.. بل استقى من حياتها الأفكار.
السؤال الذي طرحته على نفسي.. وأنا لا أتذكر تفاصيل المسرحية عندما قرأتها مكتوبة على دفتر مدرسي بعد تخرجي من معهد الفنون الجميلة، هل يمكن للكاتب أن يحتفظ بنص مكتوب ولا ينشره سوى عندما يبلغ درجة الوعي حتى يقرأ ما كتبه ويعيد النظر في بعض ثيماته الفكرية أو شكل النص وبنائه دون أن يشعر بالملل والقلق في أن ثمة نصاً مكتوباً وقد حمله معه بعد أن غادر العراق إلى الجزائر.. ثم من الجزائر إلى تونس ليستقر فيها غريباً فيقرأ ذلك النص ويشذبه ويحذف منه ويضيف إليه ثم يدفعه للمطبعة ويوزعه على أصدقائه وعلى بعض الصحفيين والمسرحيين.
أنا صراحة أمام قصة غريبة تتعلق بكاتب عراقي عاش في أجواء ثقافة البصرة وتفاعل مع الشعراء وكتب الشعر والمقالة وكتب للمسرح واغترب وهو يحمل هموم الحارة التي حملناها كلنا، ولي مطبوعة روائية عنوانها «الخندك» وقد وصفت كل العلاقات الاجتماعية وأحييت الشخوص التي ماتت، أحييتها على ورق الرواية وأيضاً أرسلتها لمن تبقى من جيلنا كي نقرأ حارة تغيرت معالمها وزرتها عند عودتي للعراق بعد أربعين عاماً.. ولم أعرف كيف أخرج منها بعد أن دخلتها فأخذت معي دليلاً يعرفني على معالمها.. لكن مسرحية «هزار» أخذت من حارة الخندك أفكارها وهواجسها ومخاوفها فأسقطها الكاتب على الوجود.
ترى لمن نكتب المسرحية؟
هل المسرحية هي نص كما الرواية.. أم هي نص للمسرح كي تتحرك شخوصه وتتجسد أحداثه تحت أضواء بروجكتورات المسرح وبحضور الجمهور في صالة مظلمة يجلس المشاهدون مشدودين لخشبة المسرح وأضوائها؟!
المسرحية لها متعة في القراءة.. لكن ليست كما متعة الرواية.. فمتعة المسرحية هي أن تُؤدى على المسرح.. بعكس الرواية التي تبقى دائماً أكثر متعة في قراءتها من مشاهدتها سينمائياً.
هذه الإشكالية المتعلقة بين المكتوب والمرئي ستبقى قائمة لحين الارتقاء بالفنون المرئية إلى مستوى عالٍ من الوعي والجمالية ولحين تضاؤل المسافة بين المبدع والمتلقي كي يلتقيا ويرتقيا على مستوى وعي الإبداع ووعي التلقي.. لكن التطورات التقنية الحاصلة في العالم جعلت تلك المسافة أبعد مما كانت عليه قبل القفزة التقنية في مجال الفنون المرئية.. ولذلك نرى أن المسرح قد تراجع في علاقته مع المشاهدين ويكاد أن يصبح من فنون النخبة.
«هزار» مسرحية قد يحالفها الحظ في أن تقدم على مسرح عراقي في غدٍ لا أحد يعرف متى سيأتي.. ومتى سيكون فيه مسموحاً تقديم مثل هكذا مسرحية تتناول مسألة الوجود بشفافية ورقة وترقب، قرر كاتبها بعد غياب طويل عن الوطن وعن حارة الخندك التي غادرها فتياً.. وقال لي عبر الهاتف وأنا في تونس: «لقد بلغت السبعين وأريد أن أعود إلى أهلي..» قالها لي وأحسست أنه تعذر عليه مواصلة الكلام!
هولندا
sununu@ziggo.nl