الحساسية العالية، والملاحظة، وخوض الحياة بتفاصيلها الصغيرة، والعيش في اللحظة، هي هِبات من السماء لا تكون لكل أحد..
إشراقة الشمس كل صباح أمرٌ مكرر إلا عند أولئك الذين يفطنون ل»الأشياء الصغيرة جداً»..
فعند الشروق كتب مالك بن نبي نشيد النهضة، وعند الشروق كتب الشعراء أجمل قصائدهم، وعند الشروق نطق محمد إقبال بما يشبه الإلهام: المسلم مثل الشمس دائم الإشراق، فهو لا يغيب إلا ليشرق في مكانٍ آخر!
ومنظر دمعةِ عابدٍ تُلهم فاروق جويدة لينطق شعراً لا أعذب منه: عيناكِ دمعة عابدٍ وقفت تصارع وحدها شبح الضلال!
وسحابة سوداء تمر - ككل السحاب الذي يمر - يستوقف هارون الرشيد ليخلد التاريخ جملته: أمطري حيث شئتِ فسوف يأتيني خراجك!
و كلبٌ يلهث من العطش، وجذع شجرة مُلقى على الطريق، ويتيمٌ اغبرَّ شعره، وشِق تمرة كفيلة بنزول رحمة الله إن تفاعل معها الإنسان.
من أبلغ أبيات الحكمة شطر بيتٍ قرأته مرةً فكأنه نُقش في ذاكرتي نقشاً: كأنما الحياة حين حيَّت.
فعلمت من حينها أن الحياة كل الحياة، تكمن في التفاصيل، وفي الأشياء الصغيرة جداً، وفي الجزئيات المتناثرة في كل مكان.
ولأن الذاكرة مخلوق تراكمي - كما ذكرت في مقالٍ سابق - فإن السعادة تراكمية كذلك..
فأشقى الناس هو من يمتلك ذاكرة قوية، وذكريات مريرة، وأسعدهم هو من يمتلك الكثير من تلك التفاصيل الصغيرة الممتعة.
ولأن الجو جميل هذه الأيام فقد خرجت ذات صباح مع أمي وأخواتي الصغار للبحر، ولعبت في المراجيح كالأطفال، وطرت لأعلى مكان كطائر السنونو، وتوقفت عند الإشارة لأشتري (حلاوة شعر).
وهكذا أعيش حياتي بجزئياتها قبل كلياتها، بل الحياة كلها جزئيات، والشيء الكلي الوحيد هو مجموع الحياة بعد الموت.
hmzmz@hotmail.com
جدة