الثقافية - محمد عطيف:
طوى الموت فجر يوم الأحد الماضي أحد أبرز الأصوات الشعرية في تاريخ الوطن الشعري ، وعميد شعراء منطقة جازان الشاعر علي بن أحمد النعمي بعد معاناة طويلة مع المرض في العقد الأخير من سنوات عمره. الشاعر المعروف كان على ما يبدو قد ودع رفاقه ومحبيه بقصيدة من أبرز ما كتب بعنوان (الصرخة الشهادة) والتي قال من ضمن ما قال فيها:
(اعذروني
أيها القراء
إذا لم تقرؤوا يوماً
من الأيام
لي شعراً كما اعتدتم
فما عدت كما كنت
أجيد الركض
في كل اتجاه
شأن عشاق الريادة
واعذروني
بعد أن أسلمني
التغييب، والنكران
والإحباط
للحزن، وللدمع
وغابت
عن مساءات خيالاتي
وأطيافي
اللحون المستجادة
لم يعد
ثمة ما يشعل
نبض الحرف
للترجيع
فالماضي انقضى
ذكرى
لمن قد شاءه ذكرى
ويبقى
القادم المجهول
لو ندري
وهل يحتاج من ادلى
بشكواه
وبالزفرة
والحرقة انهاها
الى الاغراق
في وهم الاعادة؟
ما ترى
يحمد من يحيا
حياة
كشرت عن نابها القاسي
معنى بين رعب جارفٍ
أو رهن صمت مطبق
كالهول
أو رجفة قلب
أو صدى
حرقة آهٍ
مستعادة)
والتي عكست الكثير مما كان يعانيه على صعيد النفس قبل الجسد، ومايشعر به من جنوح لأمس التألق والوهج بريعان الشباب. وعلى ما يبدو لم تفلح محاولات محبيه والتكريم الذي لا قاه مابين فترة وأخرى من إخراجه من الأجواء المرضية التي عايشها ومر بها قبيل وفاته. النعمي يبقى رمزاً شعرياً لا ينسى في تاريخ الأدب والشعر رحمه الله رحمة واسعة.
الشاعر الكبير صدح ذات يوم:
تكريم شِعرك أم تكريم إنسان؟
يا موقظ الشعر في وجدان جازان
لابن الهتيمل في دنياك مذ بزغتْ
ذكرى وذكرك يا نعميُّ ذو شان
كم زيَّنوا الشعر ألفاظاً ملفقةً
فما شدوتَ سوى شعرٍ بأوزان
هو الشاعر السيد: علي بن أحمد النعمي الحسني
من مواليد عام 1356هـ 1936م بحرجة ضمد (منطقة جازان) جنوب غرب المملكة العربية السعودية.
ليسانس لغة عربية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1389هـ، ودبلوم الإدارة المدرسية.
عضو مؤسس بمجلس إدارة نادي جازان الأدبي، ورئيس لجنة الشعر.
بدأ عمله الوظيفي معلماً للغة العربية، بمتوسطة ضمد، ثم مديراً لمتوسطة البديع والقرفي، ثم مديراً لابتدائية ومتوسطة الحرجة، حتى أحيل على التقاعد في 17 1416هـ، وتفرغ لأعماله الأدبية.
يحمل الميدالية الذهبية من مهرجان الشباب العربي الثالث الذي أقيم في العراق في العاصمة بغداد في تموز 1977م.
مثل السعودية في مهرجان الشعر العربي لدول الخليج العربية الذي انعقد في الرياض 1408هـ.
مثل السعودية في الملتقى الشعري لدول الخليج العربي على هامش معرض الكتاب بسلطنة عمان 1992م.
حصل على العديد من شهادات التقدير والدروع من جهات عدة.
شارك في العديد من الأمسيات الشعرية واللقاءات الفكرية والثقافية داخل المملكة.
كُتِب عن شعره عدة دراسات وأبحاث ومقالات نقدية.
أُنْجِزَت في شعره أطروحة ماجستير عنوانها (الشاعر علي النعمي.. شعره وحياته) بكلية اللغة العربية وآدابها بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. والأطروحة قيد الطبع، ضمن سلسلة الرسائل الجامعية. (نادي جازان الأدبي).
تأخر صدور دواوينه الشعرية إلى العام 1405هـ، رغم بدئه مبكراً في نشر قصائده بالصحف والمجلات.
صدرت له ثمانية دواوين شعرية هي:
1- الرحيل للأعماق.. (نادي جازان الأدبي).
2- عن الحب ومنى الحلم.. (دار الصافي للطباعة والنشر).
3- الأرض والعشق.. (نادي جازان الأدبي).
4- جراح قلب.. (نادي جازان الأدبي).
5- لعيني لؤلؤة الخليج.. (نادي جازان الأدبي).
6- قسمات وملامح.. (نادي جازان الأدبي).
7- النغم الحزين.. (نادي الباحة الأدبي)
8- الوطن الأرض الحب الكبير.. (نادي المنطقة الشرقية).
وله تحت الطبع ستة أعمال شعرية:
كولومبيا أبللو ورحلة البراق (شعر تفعيلي) وكانت مسودة العمل مفقودة منذ أربعين عاماً وتم العثور على الفصل الأول من العمل، وما زال البحث جارياً عن الفصلين الثاني والثالث.
عمل في الصحافة (غير متفرغ) مدة تزيد عن ثماني سنوات بصحف العاصمة الرياض، وبعض صحف المنطقة الغربية:
مشوار النعمي الصحفي:
في المعهد العلمي بالأحساء صحيفتي (التاج والضياء).. في الأعوام (13821384هـ).
أول مقالات منشورة كانت سلسلة مقالات (يعجبني ولا يعجبني) في صحيفة (الرائد) التي كان يرأس تحريرها (الأستاذ عبد الفتاح أبومدين)..
وأول (مقالة نقدية) منشورة له كانت في صحيفة اليمامة وتناول قصيدة لزميله الأستاذ علي محمد النجعي (وكيل وزارة الإعلام لشؤون التلفزيون سابقاً) وكانا أيامها طلاب ا، حدثت بعد تلك المقالة مناوشات بينهما في عدة مقالات.. حتى أوقفتها الصحيفة.
بدأ العمل محررا مع بداية عهد صحافة الأفراد عام 13841385 في مؤسسة اليمامة، وكان ينشر معها نصوصاً، ومقالات، في صحيفة المدينة.
إلى جانب عمله مراسلا لنشرة الاقتصاد السعودي لسيف الدين عاشور يرحمه الله، الذي كان يرأس تحرير مجلة قافلة الزيت.
ومع بداية عهد صحافة المؤسسات كانت أول زاوية ثابتة له بعنوان (سوانح بصحيفة الدعوة الأسبوعية)..
ثم انتقل فترة قصيرة (حوالي شهرين) لصحيفة الجزيرة، وكان يكتب زاوية اسمها (بالمناسبة)..
العودة لمؤسسة اليمامة مرة ثانية، 13851386هـ.
وفي نفس الوقت يكتب مقالات في الرياض (مؤسسة اليمامة).
وعمل مراسلا من مدينة الرياض لصحيفة البلاد (1387هـ)..
وكان يعمل في أكثر من صحيفة في نفس الوقت، إلى نهاية العام 1389هـ.
استمر بعدها في العمل الصحفي خلال فترات الإجازات، إلى نهاية العام 1392هـ. حيث تناوب مع عدة محررين في كتابة زاوية (أوراق محرر) بصحيفة الرياض.
لم ينقطع في علاقته بالصحافة، مقتصراً على نشر نصوصه الشعرية.
يقول عنه محمد النعمي: (.. وحدهم أفراد أسرته وأصدقاؤه الخُلص يعلمون أن الشاعر الكبير يُخفي بين جنبيه وفي حنايا ضلوعه جراحاً لا يتوقف نزيفها، وألماً كظلمة الليل ومرارة يتجرعها ليل نهار، يأبى عليه كبرياؤه وعزة نفسه أن يلحظها الناس، لكنها كثيراً ما تندس بين ثنايا شعره أنيناً صامتاً، وبكاء بلا دموع يقول:
كلُ شيء يسير في العمر ضدي
بتحدّ فهل أطيق التحدي؟
لي في العيش قصة سوف أروي
كل فصلٍ في سفرها المتردي
خضتُ لجَّ الحياة وحدي فطاشت
خطواتي فيه.. وما زلتُ وحدي
إذاً هو شعر بالإحباط والوحدة، ورحلته المريرة في هذه الحياة وما زال يعيش الوحدة حتى بعد أن قارب السبعين!! وإذا كانت هذه المشاعر الحارقة المحبوسة في وجدان الشاعر التي ما تنفك تطل في شعره على استحياء، فإن أصدق حالات الشاعر التي تتجلى فيها حقيقته المسكونة بالألم والجراح عندما يعود مساءً إلى قريته الحرْجة، وكلما اقترب من بيته، من عزلته كان أقرب إلى حقيقته، حتى إذا استوى على فراشه المتواضع وأطفأ سراجه، انكبَّ على نفسه كومةً من الأحزان، والهموم والجراحات والمرض ليطلقها صرخة مدوية في آخر قصائده التي سماها (الصرخة الشهادة).
وافق ثم أفق يا قلب
فالحلم هوى
والعمرُ قد شاخ
وهل يُدرك
من قد جاوز السبعين
في معترك الأيام
محروقاً مُراده!!
لم يعد شيء نرجِّيه
إذا كنّا نُرجي بعد هذا العمر
من شيءٍ فما ثمّ
سوى الدمع سوى الدمع سوى الدمع
الذي نسكبه في آخر العمر
على صدر الوسادة...).
الشاعر الكبير بقي محتفظاً بعشقه للجمال وحب الحياة والبحث عن الجلوس إلى محبيه والناس والأرض. أليس القائل:
يا حلوة العينين مري كما
بالأمس مثل النسمة الحالية
مرّي كما كنت، وكان الهوى
يخضلّ في وجنتك الزاهية
مرّي فبي شوقّ لدفق الرؤى
وللنجاوى العذبة الحالية
عيناك - يا هيفاء - ما زالتا
أشهى إلى قلبي من العافية
كما أنه - كما يقول الدكتور محمد حبيبي: (لعل القيمة الكبرى التي يمكن استنتاجها من تجربة الشاعر القدير علي بن أحمد النعمي الصحفية، أنه قدم أنموذجاً مثالياً، لإسهام الأديب في دفع الحراك الأدبي الصحفي حول المجتمع وقضاياه، والأدب والثقافة وهمومهما، في فترة مبكرة كان المجتمع السعودي بعامة، والوسط الثقافي الأدبي السعودي بخاصة، بحاجة إلى كل جهد يصب في الصالح العام لهذين الوسطين.
وإلى هذه القيمة الكبرى فثمة قيم أخرى فرعية تجسدت من تلك القيمة الأم تتمثل في التعريف بشخصية وثقافة، وتنوع مواهب الشاعر الشاب الناشئ القادم إلى مركز الثقافة، من أحد الأطراف البعيدة عن الأضواء والتوهج الإعلامي) إلى قوله: (أي حرقة تكتنف الشاعر القدير الآن بسبعينيته، هذه المفارقة، ليست الوحيدة بحياة النعمي، ومسيرته الإبداعية والصحفية والاجتماعية. فمن آخر المفارقات أن آخر قصائده المنشورة ، قصيدة سبق نشرها (بالجزيرة) قبل أكثر من (أربعين) عاما، حيث كتبها آنذاك في ممرضة، حينما كان راقدا بالمستشفى، ولما أعيد نشر القصيدة مؤخراً، كان أيضا راقدا بالمستشفى منذ شهر، ولم يجد من يجلب الصحيفة ليقرأها، ليطلق بعدها من بين جدران غرفته بالمستشفى قصيدته الأخيرة (صرخة الشهادة)، وأن آخر أمسية شعرية دعي لها، وكانت بمناسبة اليوم الوطني لهذا العام 1427هـ، لم يتمكن من حضورها، بجسده، لأنه كان يرقد بالمستشفى، لكنه فاجأ الحضور بصوته، باتصال، وكلام قاله عبر الهاتف بالأمسية، ونقل كلامه مباشرة عبر المايك، فأبكى الحضور، بحشرجة الكلمات في صدره، وانقطعت مكالمته على دوي تصفيق حار لم تشهد له القاعة مثيلا، لم يشأ الغياب عن يوم الوطن، لأنه صاحب ديوان (الوطن.. الحب الكبير).
رحمه الله رحمة واسعة.