كان الصبح الباكر أنسب الأوقات للقيام بتلك المهمة، اتخذت مكاني فوق السور متخفياً بأغصان شجرة الزيتون المتشابكة. تسع حبات زيتون غير ناضجة تدلت فوق رأسي، ومقلاع في يدي، كانت كافية لإنهاء وجود سبعة صيصان كان صوتها يملأ المكان قبل دقائق.
ببطء نزلت عن السور، أخفيت كل ما يشي بفعلتي بكيس أعدّ مسبقاً لهذا الغرض وقذفت به إلى الجانب الآخر من السور ثم بدأت بالصراخ: يا جيران... يا جيران أطلت المرأة برأسها من النافذة:
- ماذا دهاك أيها الولد الشقي؟ ماذا حدث؟
- التهمت القطة جميع صيصانكم.
- تباً... لن يصدق صغيري ما تقول.
أغلقت النافذة بعنف وأخذت تنادي ابنها بينما تسلقت السور عائداً إلى البيت.
في البيت كان كل شيء يبدو هادئاً وعادياً. فكرت فيما يمكن عمله لكسر الجمود فوقعت ذاكرتي على ذلك القوس الذي صنعته الشتاء الماضي، تناولته وغادرت المنزل مسرعاً، قاصداً المقبرة لجمع سيقان العوصلان اللازمة لصناعة السهام والتي عادة ما كانت تنبت فوق القبور.
كل شيءٍ في المقبرة كان يشير إلى أن المطر قد تأخر، العشب اليابس، الصمت الجاف، وقبر جدي الذي لم يكن موجوداً هناك بعد. لم أجد عوصلانا. عدت كما أتيت، لكن مبطئا هذه المرة. على جانب الطريق، قريباً من المقبرة، توقفت قليلاً عند ذلك القبر الشارد. قال جدي إن صاحبه كان رجلاً صالحاً، طار به النعش من المقبرة ودفن في المكان الذي هبط فيه. اقتربت من القبر، لمسته، ثم تأملته طويلاً. قليل من الهدوء جعلني أعي ما أريد..
اتجهت بكل سرعتي إلى البيت، غافلت أمي وأخذت من خزانتها قطعة قماش حمراء وخيطاً وخرجت. في (الحاكورة) خلف بيتنا وقفت أمام شجرة التين، وقع اختياري على أطول الأغصان وأكثرها استقامة وصلابة، تناولته وفصلته عن جذع الشجرة، ربطت عليه قطعة القماش، وانطلقت لجمع أولاد الحي.
تقدمتهم حاملاً الراية. بدأنا المسير مرددين ذات العبارات التي كنا نسمع الكبار من الفلاحين يرددونها كلما تأخر المطر عن موسمه، وأخذنا نقلد طقوسهم لاستجلاب المطر.
كلما دخلنا أحد بيوت الحي كان يخرج أحدهم حاملاً كأساً من الماء يرش به الراية (الشرشوح)، الأمر الذي كان يعلو به صراخنا وغناؤنا، وهكذا حتى جاء دور الجيران، كانت شهقة ابنهم المدلل تتناهى إلى مسامعنا. عندما أطل رأسها من الباب، حملقت المرأة في وجهي بغضب وقالت: أي شقي أنت أيها الولد، لا تأتي المصائب إلا من تحت رأسك، أنت من أفسد أولاد الحي، اذهبوا قبل أن أحضر العصا.
عمنا السكون لحظة، وعدنا أدراجنا متابعين الغناء بصخب أكبر حتى انتهائنا من آخر البيوت.
بعد آخر الطقوس، تجمعنا ثانية وقصدنا قبر الرجل الصالح - بدلاً من المقبرة هذه المرة - رافعين الراية. في الطريق انضم إلينا المجنون العجوز، ما أثار الرعب في نفوسنا، لما يقال عنه من قدرته على مخاطبة الجان بتلك اللغة التي لا يفهمها أحد سواه.
تابعنا المسير وقد علا صوته المتهجد بلغته المخيفة، فيما خفقت أصواتنا المرتجفة. عندنا وصلنا، تناول مني الراية وزرعها بمحاذاة القبر، ثم صعد فوقهن وأمام دهشة الجميع أخذ يتبول على قطعة القماش ويضحك بصوت مرتفع.
صعق الجميع لهول ما حدث، وعدنا إلى بيوتنا فرادى تعلونا الخيبة بعد أن أفسد علينا ذلك المخبول كل شيء..
عند المساء كنت أجلس أمام المنزل، أراقب المارة، عندما تلبدت السماء بالغيوم، وبدأ البرد يتسلل إلى عظامي..أسرعت إلى البيت، تناولت بطانية دفنت بها جسدي، واستلقيت في فراشي مستمتعاً بنقر حبات المطر على النوافذ، أتخيل المقبرة وقد ملأها العوصلان بسيقانه الطويلة النحيفة التي سأصنع منها أقوى السهام. ذهب خيالي بعيداً حيث تقدمت الأولاد بقوسي وجعبة سهامي، نتعقب قطط الحي نقنصها الواحدة تلو الأخرى.
في الصباح استيقظت على صوت ينادي باسمي تزامن مع طرقات كثيرة وقوية على باب بيتنا. فتحت أمي الباب، ودعت أحدهم إلى الدخول بسرعة، فقد كان الجو بارداً والمطر ينزل بغزارة. نهضت من فراشي بشكل آلي لأستكشف هوية الزائر. كانت الجارة، تحمل بيدها دجاجة، نظرت إليّ بعينين ملأهما حب عميق، غمزت أمي وقالت: هذه الدجاجة المسكينة التي أكل القط صيصانها، لقد قرر ابني أن يهديها إليك. عندما يتوقف المطر اذهب واشتر لها البيض لترقد عليه، ولكن عندما تفقس البيضات احذر من أن يأكلها القط ثانية، ثم ضحكت بحنان واستأذنت أمي بالرحيل.
انتظرت أن يتوقف المطر طويلاً لكن دون جدوى، وعندما نفد صبري، تجاهلت ممانعة أمي وذهبت لشراء البيض.
تحت المطر الغزير، أعددت قنا للدجاجة، وتركتها ترقد على البيض، ثم دلفت إلى المنزل، وبين وقت وآخر كنت اتفقدها، حتى حلّ الظلام، فشعرت ببرد شديد أرغمني على الاحتماء بالفراش، حيث كان الدفء يضيء لي مسارج الخيال: رأيت الصيصان بألوانها الزاهية تتراكض خلف أمها، يملأ صوتها العشوائي خلايا المكان، بينما أرش لها الحبوب فتحيط بي من كل جانب تلتقط طعامها.
في الصبح الباكر استيقظت بعد ليل متخم بالانتظار. نهضت من فراشي على عجل، فتحت الباب، كان الجو شديد البرودة. اتجهت صوب قن الدجاجة، هناك كان كل شيء يبدو هادئاً وعادياً، حتى انني لم أسمع أي صوت يأتي من الداخل. رفعت غطاء القن، وكان ما لم أتوقعه، الدجاجة تستلقي متيبسة إلى جانب البيض وقد ماتت بعد أن تسرب إليها المطر من السقف، بينما أمست البيضات مثل كتل الثلج بفعل البرد القارص.