Culture Magazine Thursday  02/04/2009 G Issue 277
فضاءات
الخميس 6 ,ربيع الثاني 1430   العدد  277
هل نحتاج إلى ثقافة عالمية جديدة..؟
عماد يوسف

 

تمخضت التطورات العالمية المتسارعة في عصرنا الراهن عن جملة من الاستحقاقات التي لم تكن موجودة فيما مضى، فقد كان للانتقالات العلمية السريعة، والتطور الكبير في حركة التجارة العالمية، وتراكم رأس المال العالمي، الأثر الكبير في انتاج تحولات هائلة، أقل ما يمكن أن يقال فيها بأنها غيرت أنماط الإنتاج العالمية، وبالتالي أنماط العيش بالنسبة للكثير من شعوب الأرض.

تظهر تباشير هذه التحولات جلّية على مرأى الجميع، فأزمات الغذاء، وارتفاعات النفط، وقلّة وشح الموارد المائية العالمية، بالإضافة إلى بؤر التوتر والصراعات المنتشرة في أماكن كثيرة من العالم، وازدياد عدد سكان كوكب الأرض، والبحث عن مصادر الطاقة البديلة، على خلفية ارتفاع أسعار النفط العالمي واقتراب مخزوناته من النفاذ في غضون سنوات قادمة لاتتعدى العشرات، وقد تكون سنوات معدودة بالنسبة لبعض البلدان المنتجة. كل هذا كان من السمات العامة التي رسمت سياسة الخطوط العريضة للقرن الواحد والعشرين، وعلى ما يبدو فإن الحلول الناجعة لهذه الأزمات بعيدة المنال، هذا إذا افترضنا بأن هناك من يعمل جاداً على إيجادها أو مقاربتها بشكل جادّ على الأقل..؟!

في خضمّ هذه القضايا المتعثرة، لابدّ من أن تتغير الكثير من طبائع حياة الشعوب، عاداتهم، توجهاتهم واستراتجياتهم المستقبلية. وهذا ليس بالأمر المستغرب، فمن طبيعة الإنسان أن يفقد تربيته المدنية، ويستدعي غرائزه الكثيرة في صراعه من أجل البقاء، ليوظفها في هذا الصراع. ويتجلى ذلك أكثر في أتون الأزمات التي تهدد مصائر البشر، لذلك نجد الناس تتدافع في أوقات الزلازل مثلاً، و تتصارع على فتات الطعام في أوقات الحروب، وهم يلجؤون إلى كل السياسات التي تنتفي منعها قيم الإنسان المتمدن، من تكافل وتعاضد، وتضحية ومساواة. فنجد الاحتكار في تخزين المواد، واعطاء الأولوية للأنا الذاتية، التي من المفترض أنها تذوب في (النحن) المجتمعية، فتتعاظم هذه الأنا، وتتضخم، حتى تصبح الدافع الأساس لكل سلوكيات هذا الكائن أو ذاك، فاقدة بذلك كل المكوّنات التي تربّت عليها، وكل القيم التي بنتها خلال حقبة من الزمن. وهذا ما بدأ يتجلى اليوم ولو بشكل متواضع وبسيط، ولكنه ’يعلن تباشير أزمة أخلاقية كبيرة، وخاصة لدى شعوب دول العالم الثالث، لأنها أكثر تأثراً بالتحولات المعاصرة، لجهة ضعفها في المستويات الاقتصادية والثقافية والسياسية، فبنيانها الهش لا يساعد على الصمود كثيراً في وجه التحديات الكبرى!

إن الذات الإنسانية تتميز بكونها ناطقة أولاً، ومتعلمة، وبالتالي من المفترض أنها تتقبل مكتسبات ثقافية عليا، عبر سلوكيات مجتمعية راقية، فالمهارات المكتسبة، والنتاج الثقافي والفكري الذي راكمته البشرية عبر آلاف السنين، يجب أن يقف رادعاً أمام انحدار الشعوب إلى درك التعاطي الحيواني غير العاقل في القضايا والمآسي الإنسانية المشتركة، وبالتالي فإن فقدان هذه المكتسبات الهامّة التي أنجزت عبرعصور التاريخ هي إنذار خطر قاتل يعكس امكانية ضياع هذه المقدّرات الهائلة، والتطورات التي أنتجتها البشرية من خلالها. وبما أن هذا الكائن (الإنسان) هو كائن عاقل، وبالتالي مفكّر، وعليه يمكن التأثير فيه في المستوى الثقافي السامي، لجهة الحفاظ على آدميته من الضياع والإنهيار، ولجهة انتاج حالة ثقافية جديدة، تحمل في مضامينها قيم عليا، كمثل التكاتف الإنساني، وقبول الآخر، وتقديم العون، وتحاصص الغذاء، وإلغاء الاحتكار، ورسم السياسات العالمية لتعايش سلمي بين الشعوب، وتقاسم موارد الأرض، والعمل على حلّ الأزمات الراهنة، وأيضاً التخطيط للتطوير العمراني والديمغرافي العالميين، والمساعدة في التعليم ومحو الأميّة، وما هنالك من استحقاقات يجب أن تحتل الحيز الأول من الاهتمام لدى كبار مثقفي العالم، ورجال السياسة والاقتصاد وغيرهم من النخب المسؤولة عن سياسات العالم المعاصر.

وهنا قد يتبادر إلى الأذهان اطلاق مصطلح الثقافة لمسميّات قد يراها البعض بعيدة عنه كل البعد، ويخاله مرتبطة بالسياسة فقط؟ ونقول هنا بأن هذا بالتأكيد هو تفكير خاطئ، لأن العقل الإنساني المثقف هو الذي أنتج كل المعطيات العالمية الحديثة، فنظريات الدول والأنظمة الرأسمالية العالمية، وتشكلّ المجتمعات واقتصادها، سواء كان رأسمالي أو اشتراكي، وحتى فنون الحرب والسيطرة، وقيم العولمة وغيرها كلّها نتاجات ثقافية، وللثقافة جوانب عديدة، وقد تكون سلاح ذو حدّين، فالليبرالية والرأسمالية أنتجها مفكرو أوروبا، وصراع الحضارات تحدث عنه المفكر الأمريكي هنتغتون، ونهاية التاريخ والإنسان الأخير كانت نظرية لكبار مثقفي أمريكا من أصل ياباني وهو فوكوياما، وتشومسكي مثقف كبير يساهم في رسم السياسات الأمريكية، كما ساهم هنتغتون في رسم مخيلّة الرئيس الأمريكي الابن جورج دبليو بوش، وقاد ما قاد إلى اعتقاده بأنه أتى لإنقاذ البشرية. وحتى مناجاة ربه له التي تصورها، آمراً إياه بالتوجه لضرب الإرهاب في فلسطين وأفغانستان والعراق، كانت نتيجة مؤثراته الثقافية الثيولوجية. وهذا ما نراه في بلد عملاق كالصين، حيث نجد أن عمالقة المثقفين الاقتصاديين فيه ومفكريه المعاصرين، ومنهم الرئيس السابق جيانغ زيمين صاحب نظرية التمثيلات الثلاثة التي طرحها في أعمال المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الثاني 2002، والتي أسهمت في تحقيق إصلاحات جوهرية على أرض الواقع. والتي ضاعفت النهضة الاقتصادية الصينية وأثرّت بشكل كبير في زيادة النمو الذي تجاوز 7 % في الناتج القومي، ما عكس طلباً متزايداً على الطاقة، والغذاء، بسبب نمو الاقتصاد وزيادة بحبوحة ورغد العيش لديهم.

إذاً؛ يعكس العقل العالمي المثقف اليوم، تأثيره الكبير في رسم السياسات العالمية المعاصرة، وبالتالي دوره في تأزيم الأوضاع الاقتصادية العالمية، والتي بدأت تعكس الكثير من التأثيرات السلبية على جميع البلدان، ولو أن البلدان المتقدمة تبقى أقل تأثراً بهذه الإنهيارات. ولكنها لم تنج من تأثير التسونامي الاقتصادي العالمي، الذي يقوّض دعائم النظام العالمي الذي بقي يحتفظ ببعض التوازن لسنوات كثيرة خلت، فهل نكون والحال هذه بحاجة إلى ثقافة عالمية أسمى تحمل في طياتها بعضاً من العدل، والفكر الإنسانيين؟؟!

سورية

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة