Culture Magazine Thursday  02/04/2009 G Issue 277
فضاءات
الخميس 6 ,ربيع الثاني 1430   العدد  277
في رثاء الطيب صالح
عبدالرحمن مجيد الربيعي

 

كنت أعرف بأنه مريض منذ أن حدثني عن متاعبه مع الكلى.. صديقنا المشترك عبدالله الناصر، الأديب السعودي المعروف، عند لقائنا في دمشق لحضور الندوة التكريمية للروائي السوري ياسين رفاعية الذي أصر أن يجمع حوله في ذلك الحفل أصدقاءه القريبين الذين جاؤوا من المدن السورية إضافة إلى مدن عربية أخرى: رشاد أبو شاور من عمّان، ومحدثكم من تونس، والناصر من لندن، وكان وقتها الملحق الثقافي لبلاده في المملكة المتحدة.

عندما سألت الناصر عن أخبار الطيب صالح قال لي: إن حالته الصحية صعبة بسبب معاناته مع الكلى.

وكنت أعرف أن الأخ الناصر قد جمع حوله في مجلة (الثقافية) عدداً من الأدباء العرب المقيمين في لندن أمثال: خلدون الشمعة ود. عبداللطيف اطيمش وبسام رفاعية نجل الروائي ياسين رفاعية. وقد خصّ الناصر الطيب صالح بمهمة مستشار التحرير لهذه المجلة التي كانت تصدر مرة كل شهرين.

وهنا تذكرت آخر لقاء لي مع الطيب صالح في القاهرة أيام ندوة الرواية العربية في آخر دورة لها في عهد الناقد د. جابر عصفور، قبل أن يغادر منصبه كأمين عام للمجلس الأعلى للثقافة إلى رئاسة هيئة الترجمة، وهي الدورة نفسها التي منح فيها الطيب صالح جائزة الرواية العربية.

أذكر أننا كنا نجلس بجانب بعضنا؛ هو عن يساري، وعن يميني كاتبة وروائية لبنانية قالت لي: لم يحصل أن التقيت الطيب صالح من قبل، لكنني قرأت له رواياته المنشورة خاصة (عرس الزين) و(بندر شاه) ولا أدري: لماذا تكون لديّ انطباع أنه وليّ وليس روائياً فقط.

ثم طلبت مني أن أقدمها له وفعلت، كما تركت مكاني لها لتجلس بجانبه، وكانت آنذاك غاية في الأناقة ترتدي فستاناً أبيض وقد نزعت سترتها البيضاء كذلك ووضعتها على ركبتيها.

وصافحته، ثم أطبقت كفيها المفتوحين أمام وجهها مع انحناءة قليلة وكأنها تحضر قداساً كنسياً ثم قالت له بصدق: امنحني بركاتك.

هذا ما سمعته، وقد تحدث معها قليلاً ثم استسلم إلى إغفاءة، فما كان منها إلا أن التفتت إليّ وهي تقول باستغراب لم تعهده: نام. ورددت: دعيه.

آنذاك ربطت بين تلك الحادثة وبين ما سمعته من صديقنا المشترك الأستاذ عبدالله الناصر بعد ذلك عن مرضه. ولكن بعد انتهاء الندوة ومغادرتنا لمقاعدنا قلت للطيب صالح: فين مصطفى سعيد وغزواته الغرامية، كيف تترك هذه المرأة الجميلة التي طلبت أن تمنحها بركاتك وتنام، فما كان منه إلا أن ردد تلك الكلمة الفاجعة التي تعني رثاء النفس قبل أي شيء آخر: يا سيدي.

وكنت قبل هذا اللقاء بعام قد التقيته في مهرجان أصيلة الذي كان من ضيوفه الدائمين، يأتي كل عام مع مجموعة من أصدقائه السودانيين وأظنهم يأتون معه من بريطانيا، وكانوا يجلسون مع بعض، يتحدثون ويتبادلون النكات ويقهقهون، وبدوا لي وكأنهم شخصيات نبتت من عالم رواياته.

عرفت الطيب صالح للمرة الأولى من خلال مجلة (أصوات) التي صدرت في أربعة أعداد تقريباً عن إذاعة لندن. وكان رئيس تحريرها المستشرق البريطاني دنيس جونسون ديفيز الذي اختار مصر مستقراً له، ولم يغادرها إلا لفترة بعد أن اشترى داراً في مراكش. ولكنه سرعان ما عاد إلى مصر وإلى (الفيوم) تحديداً؛ حيث يمتلك بيتاً هناك. كأن دنيس جونسون ديفيز كان أول من قدم هذا القاص والروائي وأحد أركان القسم العربي في محطة BBC الإذاعية.

لقد نشر له مجموعة قصص تحت عنوان (مقدمات) التي جعلت القراء والأدباء يتعرفون على كاتب له بصمته المميزة في الكتابة السردية. لكن اسم الطيب صالح تأكد أكثر بعد أن نشر توفيق صايغ صاحب مجلة (حوار) النص الكامل لروايته (موسم الهجرة إلى الشمال) التي سرعان ما صدرت ضمن روايات الهلال في القاهرة مع مقدمة للناقد المعروف رجاء النقاش.

وهكذا أصبح اسم الطيب صالح متداولاً، كما أصبح نتاجه على قلته مقروءاً. وقد أعادت دار العودة اللبنانية التي اشتهرت في الستينيات وبداية السبعينيات أعماله في عدة طبعات.

ولم تخل أي دراسة للرواية العربية من التوقف عند تجربة هذا الروائي الاستثنائي الذي ليس بيننا من لم يقرأ رائعته (موسم الهجرة إلى الشمال) التي شدت الانتباه أكثر من أعماله الأخرى ذات الأجواء السودانية المغلقة بحواراتها الدارجة والتي تحتاج إلى أكثر من قراءة لغرض فهمها.

كان الطيب صالح مقلاً في عطائه الروائي والقصصي، ولكنه كتب مئات المقالات وأظن أن هناك من جمعها في أكثر من كتاب كما تناهى إليّ، ولكنني لم أطلع عليها.

وفي مراسلة أخيرة مع الصديق الشاعر د. عبداللطيف اطيمش، قال لي إنه سأله في إحدى جلساتهما اللندنية عن قلة نتاجه، فكان رده: الحياة أهم من الكتابة.

وهو جواب مبهم، ويمكن أن يكون قد قاله وهو أمام معاناته مع متاعب الكلى، ورغبته في أن يتجاوز هذه المحنة الصحية، فالحياة فعلاً أجمل، ولكنها أكثر جمالاً بالكتابة وليس بدونها.

رحم الله الطيب صالح فهو مبدع من طينة نادرة.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902» ثم أرسلها إلى الكود 82244

تونس

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة