- 1 -
كان حُلماً ما كتبتُ هنا بتأريخ 30 يناير 2005، تحت عنوان (شيخ نقَّاد الجزيرة)، في ملفٍّ تكريمي للأستاذ عبدالله عبدالجبّار، إذ قلتُ: إن من (المفارقة أن طلبة الأدب والنقد في جامعاتنا لم يسمعوا باسم عبدالله عبدالجبَّار، على حين تُرصد لهم وعليهم الأسماء من كل حدب وصوب)، وذلك لأن كُتُب الرجل نفسها نسمع عنها ولا نكاد نراها. واليوم ها هو ذا الحُلم تحقَّق بتلك الباقة الرائعة من مجلَّدات سبعة، صَدَرَت عن مؤسّسة الفُرقان، 1429هـ، من إعداد الأستاذَين الفاضلَين محمَّد سعيد طيِّب وعبدالله فرّاج الشريف. وقد ضَمَّت أعمال عبدالجبَّار الكاملة: (التيَّارات الأدبيَّة في قَلب الجزيرة)، بقسمَيه: الشِّعر والنثر؛ (قِصَّة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي)؛ ومجلَّداً يضمُّ أربعة أعمال، هي: (المرصاد)؛ (الغزو الفكريّ في العالَم العربيّ)؛ قِصص (أُمِّي- العمّ سحتوت- ساعي البريد، وَرَدَتْ على الغلاف هكذا، فيما هي: (سائق البريد)، كما في المجلَّد)؛ مسرحيّة (الشياطين الخُرس)؛ ثم مجلَّداً يضمُّ المقدِّمات التي كتبها الأستاذ لأعمال آخرين؛ فالمقالات التي كتبها؛ وأخيراً (ما كُتب عنه).
والحقُّ أن ما ضَمَّه المجلَّد الخاصِّ بما كُتب عنه، قد لا يشمل كُلَّ ما كُتب عنه، لكنَّه: ممَّا كُتب عنه. ولعلَّ هناك رسائل جامعيَّة عنه، محلّها عملٌ آخر أوسع؛ فلقد كنتُ أشرتُ- على سبيل المثال- في مقالتي في ملفّ تكريمه إلى رسالة ماجستير، تحت عنوان (جهود عبدالله عبدالجبّار في الدراسات الأدبيّة)، كنتُ شرعتُ في الإشراف عليها، لولا أن حالت دون الباحثة إذ ذاك ظروف، ولا أعلم شيئاً عن مصير عملها. وما أظنّ تلك المحاولة الوحيدة. بل إن ما أُدرج في ذلك المجلَّد تحت عنوان (دراسات وبحوث) هو- باستثناء عمل واحد لنبيل راغب، بعنوان (أصول التنوير الفكري: دراسة في منهج عبدالله عبدالجبار)- أقرب إلى مقالات مقتضبة، منه إلى (دراسات وبحوث)، كما عُنونت. ومهما يكن، فإن ما أُنجز جهدٌ قَيِّمٌ جدَّاً، وحين تلقّيتُ نسخةً مهداة منه، عبر الأستاذ محمَّد با وزير- بصفتي مسهماً بكلمة متواضعة فيه- سررتُ به أيّما سرور.
ولَمَّا التَقَينا والنَّقا مَوعِدٌ لَنا
تَعَجَّبَ رائي الدُرِّ حُسناً ولاقِطُهْ!
صافحتُ حلُماً بذلك العِلْق الثمين، ولم يسعني الجَذَل. ولا شكّ أن مثل هذا الإنجاز هو التكريم الحقيقيّ، لا للأديب والناقد والمفكِّر فحسب، ولكن لأجيال الأدباء والنقَّاد والمفكِّرين من بعده أيضاً. فشكراً للقائمين على هذا العمل، جمعاً، وتصنيفاً، وتمويل نشر.
- 2 -
تُرى هل نحن في عصر الرواية أم الشِّعر؟
هل نحن في عصر السينما أم التلفزيون؟
أم نحن أتباعٌ، وبلا عصر؟
مقولاتٌ وأسئلةٌ تُطلَق، وتُلصَق، ويُصَفَّق لها، وتُنشَر، وتُرسَّخ، حتى تتحوَّل إلى أسطوانات صوتيَّة، تُبدأ وتُعاد، لا تكلّ الآلة الإعلاميَّة من تكرارها ولا تملّ. وتلك نماذج لأسئلتنا البائتة، وشعاراتنا المبالغ في أهميَّتها، وقد تكون عمليَّاً وواقعيَّاً ممَّا أكل عليه الدهر وشرب.. ثم نام! لم يُجر معي حوار، ولا مع غيري، إلاّ سُئلنا عن عصر الرواية والشِّعر، وعن رأيي في السينما في السعوديَّة، وكأنما تلك قضايا القضايا الآن، وستمثَّل تحوّلاً كفيلاً بتغيير وجه التاريخ.
ولنأخذ سؤال السينما، مثالاً!
هو يُطرح بكثرة لأنه سؤالٌ إعلاميّ بامتياز، من حيث هو سؤالٌ استفزازيّ، فمَن لا يعرف من السينما إلاّ صورة نمطيَّة سيِّئة، سيُرعد في الإجابة ويُزبد، ومَن في (الاتجاه المعاكس)، سيهشّ للسؤال ويبشّ، ويصوّر الموضوع وكأن المملكة ما كانت لتكون ولا لتواكب قرنها الحاليّ بلا سينما ودُور عرض... إلخ. وكلا الفريقَين يبدوان في موقفهما خارج العصر غالباً، وخارج الحداثة، والتقنية المعاصرة، ووسائل الاتصال المتناسلة؛ فلا السينما، بوصفها مشاهَدَةً لأفلام، كانت غائبة عن حياتنا أصلاً، ولا حضورها- بشكلها التقليديّ- هو الذي سيمثِّل تحوّلاً تاريخيّاً في الحياة والثقافة. والسبب أننا نصل عادة إلى مقاربة كثيرٍ من الأسئلة بعد انتهاء تاريخها وصلاحيّتها للإجابة، فنظنّ أننا ننطلق منها إلى الأمام، ولربما كانت تنطلق بنا إلى الخلف. أنا- شخصيّاً- لا أفهم معنىً للضّجّة الدائرة اليوم عن السينما في السعوديَّة، لا من الممانعين، ولا من الهاشّين الباشّين؛ فلا الممانعون سيمنعون شيئاً غير موجود، ولا الهاشّون الباشّون سيُحدثون جديداً على صعيد معايشة السينما العربيّة أو العالميّة.
ويُلحّ السؤال (البريء) السابق: هل نحن أصلاً في عصر السينما؟ أم في عصر التلفزيون، والقنوات الفضائيّة، والإنترنت واليو تيوب؟
لقد كانت السينما هي البداية التاريخيّة العتيقة لثقافة الصورة، ثم جاء التلفزيون- أو التلفاز، كما تفضّل العربيّة- ثم الفيديو، فتقلّصت أهميّة دُور السينما كثيراً جدّاً؛ إذ أصبحت لعرض الجديد من الأفلام؛ فيما كانت قبل ظهور الفيديو تعرض الفيلم قديماً وجديداً، لعدم وجود بديل. ثم جاءت بعد مرحلة التلفزيون والفيديو مرحلةُ القنوات الفضائيّة المفتوحة بعرض السماء، ومنها قنوات الأفلام المتخصّصة، ثم الآن الإنترنت، واليو تيوب، الذي قد يغدو بديلاً للتلفزيون. ومن هنا تبدو العودة إلى السينما مجرّد رجعة تاريخيّة متأخّرة، لا تستحقّ كلّ الضجّة المحاطة بها.
تُرَى هل من المعقول اليوم أن أتجشّم الذهاب إلى دار عرضٍ سينمائيّ، وأقتطع من وقتي وجهدي، وأدفع ثمن تذكرة، وأزاحم، وأقاحم، لمشاهدة فيلم، قد يعجبني وقد لا يعجبني، وبإمكاني أن أشاهده في المكتب، أو حتى على سرير النوم، مجّاناً، متى شِئت، وأعيد المشاهدة لو شِئت؟! وهل يسوّغ ذلك مجرّد الحرص الشديد على مشاهدة فيلم جديد، مكتوب علينا أن نشاهده، إنْ عاجلاً أو آجلاً؟! نعم، للمشاهدة الجماهيريّة مذاقها، وربما أسهمت في غرس قِيَم جماهيريّة شعبيّة معيّنة، لم تُفلح أجهزة العرض الشخصيّة، والخاصّة، والاختياريّة، في غرسها. إضافة إلى أنها تفتح نوافذ على غايات أخرى، اجتماعيّة، وقيميّة، وثقافيّة. هذا إضافة إلى الأهداف الاستثماريّة الاقتصاديّة من ورائها، وغير الغائبة عن البال. ولكن هل فكرة الدُّور السينمائيّة لعرض الجديد من الإنتاج السينمائيّ ما زالت صالحة لهذا الزمان؟ أم أنها قد باتت- أو ستصبح عمّا قريب- مشروعات خارج الزمن، ومتأخّرة جدّاً عن أوانها، ولا تقرأ طبيعة المرحلة، وتَطوُّر الحياة، وإيقاع العصر؟! تلك هي المسألة.
المفارقة هنا تتبدّى من ذلك الخطاب التضخيمي- بمناسبةٍ وبغير مناسبة- لحرمان المواطن السعوديّ من السينما! وكأننا بالفعل محرومون! أو كأننا بالفعل عبرها- وبصورتها التقليديّة- سنتقدّم، وسنَلِج التاريخ من أوسع أبواب عَرضه، لا نَرجع إلى حِقَب ماضويّة من التاريخ، لنضيف ملهاة من ملاهيه إلى واقع بطالتنا عن جادّ الحضارة!
وهنا لا بُدّ من إيضاح التباسٍ يقع حينما يُطرح مثل هذا الموضوع. ذلك أن دُور العرض السينمائيّة التقليديّة قد انتهى عصرها، منذ عقود أو كاد، كما أشرنا، فأصبحتْ- في الغالب- تراثاً من القرن الماضي، اللهم إلاّ في حالات خاصّة، من مناسبات، أو احتفاليّات، أو مهرجانات، يُعنَى بها المهتمّون في هذا المجال، وربما بقيت دُورٌ هنا وهناك تُقيم فعاليّات عُروض، لا تستقطب الجيل الحاليّ كثيراً- ولا حتى قليلاً (ربما)- إذ هي معدودة من (كلاسيكيّات) الحياة الاجتماعيّة الغربيّة، يرتادها بقايا جيلٍ مَضَى. ومَن يفكّر في هذا الاتجاه- سلباً أو إيجاباً- ما زال يعيش في القرن التاسع عشر أو النصف الأوّل من القرن العشرين. أمّا أنْ توجد لدينا صناعةٌ سينمائيّة محليّة، حقيقيّة وجادّة، تستدعي دُور عرضٍ لها، فهذا- في رأيي- أمرٌ حيويٌّ، ومهمّ. ذلك أن السينما سلاح- أو لنقل (تقنية)، وكفانا الله شرّ (الأسلحة)!- يمكن توظيفها ثقافيّاً، واجتماعيّاً، وحتى عالميّاً. ولنَذكر تلك الأفلام التي أساءت إلينا، وإلى رسولنا، وإلى رموزنا، وظللنا نصرخ منها ونحتجّ، ولا حياة لمَن تنادي، ألم تصنعها السينما؟ كيف إذن سنوصل صوتنا إلى العالم، ونواجه التشويه المتعمّد؟ هل نواجه الأفلام بالأقلام، أو بمظاهرات، وتشنّجات غوغائيّة؟ أم نواجهها بأعمال حيّة من نوعها، تعبّر عنّا، وتصل إلى الآخر بشكل احترافيّ، وعلى نحو عصريّ فعّال؟
أمّا على الصعيد الداخلي، فلعلّ الأجدى لدينا اليوم الاهتمام بالمسرح أكثر من السينما. لأن المسرح ما زال فنّاً شاملاً؛ ومن هنا اكتسب تكنيته ب(أبي الفنون)، لاستيعابه مختلفها؛ ولأن له إلى هذا وظائفه التثقيفيَّة، والتربويَّة، والاجتماعيَّة، الحيَّة والحيويَّة، التي تتخطَّى مجرّد الفُرجة. كما أنها لم تَنُب عنه البدائل المستحدثة فيما يحقّقه من أهداف. ويمكن بالفعل توظيف المسرح التوظيف الأمثل، الذي يجمع بين المتعة الجماهيريّة، والفائدة التثقيفيّة، والرسالة التنويريّة، والمعالجة (التنفيسيّة) Catharsis، كما كان أرسطو يرى وظيفة المسرح.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net